تُسيّل الارتفاعات الجامحة في أسعار الذهب عالمياً "لعاب" المصطادين في ماءِ مجافاة الإصلاح العكرة محلياً. فكما يَرهُن المقامرُ الذي تستحكمُ به الخسارةُ أصولَه أملاً بربح مستقبلي يعوض ما فقده، تتجدد مع كل "هـَبـّة" باسعار المعدن الأصفر دعوة البعض إلى توظيف الاحتياطي أو جزء منه لتسريع التعافي الاقتصادي. إلا أن ما يتجاهله الكثيرون عن حسن نية، أو عن سوئها، أن الاقتصاد اللبناني الذي بات أقرب إلى نظام الكازينو، مُصممٌ ليخسر فيه المراهنون المزيد من الأموال والوقت.
ذهبُ لبنان الذي ظل منسياً في أقبية المصرف المركزي لعقود طويلة، عاد مع بدء الانهيار ليتصدرَ قائمةَ الحلول لإعادة تشغيل عجلة الاقتصاد، أو التعويض على المودعين أو تسديد الديون.. أو خلافِه من الطروحات. ولو انجر المسؤولون إلى هذا الخيار في كانون الثاني العام 2020، لكان لبنان خسر قرابة 17.3 مليار دولار. ذلك أن احتياطي الذهب في لبنان المقدر حجمة بـ 9 ملايين و221 ألف أونصة، ارتفعت قيمتُه منذ ذلك التاريخ من حدود 14 مليار دولار، إلى حوالي 31.2 مليار دولار حالياً. وذلك بالتوازي مع ارتفاع سعر الاونصة من 1515 دولار، إلى 3390 دولاراً.
الحالة المستعصية للاقتصاد اللبناني
ربّ قائلٍ، أن ضخ مليارات الدولارات مع بدء الانهيار كان من شأنه أن يحدث صدمة إيجابية "توقظ" الاقتصاد من حالة الإغماء التي دخل بها بعد "سقطة"، إقفال المصارف وتوقفها عن الدفع. وكان لبنان ليتجنب التخلف عن سداد الدين بالعملة الاجنبية فيما بعد، ويتحاشى هبوط التصنيف الائتماني إلى القعر، وانهيار العملة الوطنية، وارتفاع التضخم... وما لحق هذه المؤشرات من انهيارات على كافة المستويات المالية، النقدية والاجتماعية. وهذا قد يكون صحيحاً من الناحية النظرية، لو أن غياب الاقتصاد عن الوعي كان حادثاً عرضياً. إنما فعلياً فان الحالة التي كان قد دخل بها الاقتصاد في ذلك الوقت كانت تشبه إنتشار الورم الخبيث في كل الجسم.
ما يتجاهله الكثيرون أنه بين 2020 ويومنا الراهن، تم ضخ أكثر من 50 مليار دولار في الاقتصاد، من دون أن تأتي بأي نتيجة إيجابية. وبالارقام، دُفع 12 مليار دولار على الدعم، وحوالي 5 مليارات دولار ربح من صيرفة، وتم تسديد ديون بسعر مدعوم بقيمة 30 مليار دولار، وقدم البنك الدولي قروضاً تناهز المليار دولار لتمويل "برنامج أمان" وشراء القمح، وحصل لبنان على مليار و 129 مليون دولار من "حقوق السحب الخاصة – SDR" من صندوق النقد الدولي، وقدمت الدول مساعدات لوجستية ونقدية بمئات ملايين الدولارات بعد انفجار مرفأ بيروت وحرب الإسناد. ولم يتعاف الاقتصاد. ولو استثنينا الدعم والديون التي سُددت بغير قيمتها الحقيقية، نظراً لكون هذه المبالغ دفعت من أموال المودعين، وقلصت فرص استرداد الودائع، وزادت المشاكل، فإن بقية المساعدات الخارجية المقدرة بالمليارات لم تسهم في انتشال الاقتصاد من غرقه، لا بل فاقمت الأمور سوءاً.
لا يمكن استعمالُ الذهب في ظلِّ الفساد
من الناحية الاقتصادية الصرف لا يمكن اعتبار استعمال احتياطي الذهب بيعاً أو تأجيراً أو رهناً واستثماراً أمراً غير طبيعي، لكن "طالما مازلنا نتحدث عن الاصلاحات في لبنان، فان المس بالذهب يصبح محرماً "، يقول الأستاذ الجامعي والخبير الاقتصادي الدكتور إيلي يشوعي. "ولاسيما في ظل انتشار الفساد. حيث لا يفوت بعض المسؤولين فرصةً لحماية مصالحهم، وزيادة ثرواتهم، والهروب من المحاسبة، واستمرار التعدي على الحقوق المالية للدولة، وللمواطنين". ويتسبب هذان التعديان اللذان يمثلان جوهر الفساد برأي يشوعي بـ"إثراء جماعات معينة، غالبيتها من السياسيين والإداريين والمتعهدين، على حساب الجميع".
"طالما تحقيق الإصلاحات هو الهدف، يعني أن القضاء على الفساد لم ينته، وطالما هناك فسادٌ ناجمٌ عن التعدي على الحقوق في جو موبوء أخلاقياً، لا يمكن المخاطرة باستخدام الذهب بأي شكلٍ من الأشكال"، يصر يشوعي. هذا من الناحية المبدئية. أما من الناحية العملية والعلمية فإن "الحديث عن استخدام احتياطي الذهب يعني بيعه. وكل ما يُروّج له من إمكانية تأجير أو توظيف مع الاحتفاظ بالأصل، تعتبر آليات غير مرغوبة أو مفيدة عالمياً. لا لا يمكن إدخال الاستئجار في الميزانيات للشركات والمصارف المركزية. ولا احد يعمد إلى المخاطرة باستئجار الذهب لتحقيق بعض المكاسب الآنية. وعليه فإن الاتجاه العالمي هو لشراء الذهب، إذ ان أهمية الذهب الفعلية تتحدد بمقدار الاحتياطيات التي تملكها الدول من هذا المعدن النفيس. وفائدته بالقيم الفعلية التي تمتلكها الدول من الذهب بصفته الملجأ الآمن من تدهور قيمة العملات الورقية أو الرقمية".
المصارف المركزية تستثمر بالذهب
في الوقت الذي يطرح فيه البعض بيعَ الذهب، اشترت البنوك المركزية حول العالم 1045 طناً مترياً من الذهب العام الماضي، بقيمة 96 مليار دولار تقريبا"، بحسب أرقام مجلس الذهب العالمي. و"قد تضاعفت وتيرة المشتريات السنوية من الذهب منذ اندلاع الحرب في أوكرانيا. إذ سعت السلطات إلى إعادة التوازن إلى الاحتياطيات بعيداً عن الدولار".
انطلاقا من كل ما تقدم فإن استخدام الذهب اليوم سيُخسَِر لبنان فرصتين:
- الاولى المخاطرة بضياع مردوده إلى الأبد في ظل استشراء الفساد، وعدم وجود رؤية واضحة قائمة على الشفافية والمساءلة والمحاسبة للخروج من الانهيار، واقتصار المعالجات لغاية الآن على الشعارات.
- الثانية استمرار الارتفاع المضطرد لأسعار الذهب، وقد زاد سعر اونصة الذهب بقيمة 10 دولارات منذ بدء كتابة هذا المقال وقبل الوصول إلى هذا الجزء. إذ ارتفع سعر الاونصة في ظرف ساعات قليلة من 3390 دولارا إلى 3400 دولار.
المطلوب اليوم نسيان الذهب، وصب الاهتمام على الإصلاحات، وفي مقدمتها: "قانون النقد والتسليف، وبالتالي البنك المركزي، من ثم إصلاح الموازنة العامة للدولة، ومن بعدهما المصارف"، من وجهة نظر يشوعي. "وتتطلب هذه الإصلاحات الاستعانة بالقضاء. ذلك أنه من دون محاسبة جدية وفعلية لن يستقيم الوضع وتُستعاد الثقة بالقطاع المصرفي وإنّ "مرمرت أرضيته وذهبت جدرانه"، يضيف يشوعي.
الذهب "قرشُ" لبنان الأبيض يُمنع منعاً مطلقاً التصرّف به وفقاً للقانون رقم 42 الصادر في العام 1986. ومن غير المجدي تعديل القانون وتسييل الذهب بأي شكل من الأشكال، ليس لأن استعماله لن يكون مفيدا بالضرورة، بل لانه "إن ذهبْ" لا يمكن ان يعود في ظل الفساد وغياب الرؤية والمعالجات وانعدام المحاسبة.