عمّق الانهيار الاقتصادي الخلاف بين "أصحاب المصلحة". واتسعت الهوة بين أرباب العمل والعمال، الدولة والموظفين، المالكين والمستأجرين، البنوك والمودعين، الضمان و المضمونين. ولم تنجح كل القوانين بردم الفجوة.

كسرُ القوانين الذي لطالما كان الشواذ في المجتمعات، تحولَ إلى القاعدة في لبنان. فيُقـَرّ قانونُ زيادة الحد الأدنى للأجور ويـُكسـَرُ برفض إعطاء غلاء المعيشة. ويُقـَرّ قانون دولار الطالب، ويـُكسـَرُ باستنسابية المصارف، ويُقـَرّ تعويض نهاية الخدمة ويـُكسـَرُ بتلكؤ الشركات عن تسديد المطلوب عليها. واخيراً وليس آخراً، يُقـَرّ قانون الايجارات غير السكنية، و صندوق تعويضات نهاية الخدمة في المدارس الخاصة، ويُكسرُ برفض المستأجرين والمدارس الخاصة تطبيقه..

تداعيات عدم تطبيق القوانين

بتاريخ 14 و15 كانون الأول 2023 أقر مجلس النواب ثلاثة قوانين، هي:

- قانون الهيئة التَعليميّة في المَدارس الخاصّة وتَنظيم الموازنة المَدرسيّة.

- القانون الرامي إلى إعطاء مُساعدة ماليّة لحِساب صِندوق التعويضات لأفراد الهيئة التعليميّة في المَدارس الخاصّة.

- والقانون المُتعلّق بتَعديل قانون الإيجارات للأماكن غير السكنيّة.

تنصُّ القوانين باختصار على تمويل صندوق تعويضات نهاية الخدمة للاساتذة عبر اقتطاع 8 في المئة من دخل الاستاذ بالليرة والدولار سواء كان الاستاذ متعاقداً أو في الملاك، مقابل حصول المدرسة على براءة ذمة من "الصندوق"، تُعتبر إلزامية لموافقة وزارة التربية على موازنتها السنوية. وبما يتعلق بإيجارات الأماكن غير السكنية، فقد نص القانون على تحريرِها بعد عامين في حال قرر المستأجر تسديد الإيجارات على السعر القديم، وبعد 4 سنوات في حال التزم المستأجر بدفع 8 في المئة من بدل المثل. بمعنى أنه اذا كانت قيمة المأجور 100 ألف دولار، يدفع المستأجر 8 الاف دولار سنويا على مدة 4 سنوات.

هذه القوانين أوقف تنفيذها الرئيس السابق نجيب ميقاتي، وردّها إلى مجلس النواب مستعملا ًصلاحيات رئيس الجمهورية، بضغط من المدارس الخاصة ولجان التجار كما أُشيع وقتها. ذلك مع العلم ان تداعياتها على المتقاعدين من الأساتذة كانت كارثية، إذ إن راتب الاستاذ المتقاعد لم يكن يتجاوز 40 دولاراً، كون المدارس كانت تسدد نسبة مئوية من رواتب الأساتذة بالليرة، وتعتبر أن ما تدفعه بالدولار هو مجرد حوافز ومساعدات اجتماعية وليست رواتب. فيما عانى المالكون من تدهور عوائدهم من أملاكهم إلى نسب زهيدة جداً، في حين أن المستأجرين يتقاضون أموالهم بالدولار النقدي واحيانا كثيرة يعمدون إلى تأجير المكان عـ"المكشوف" أو "من الباطن"، بالدولار النقدي.

قانون صندوق التعويضات وزيادة الأقساط

رغم كل هذه المشاكل، سوّق أصحاب المصلحة أن رفع نسبة الاقتطاع من الرواتب إلى 8 في المئة بالليرة والدولار ستؤدي إلى زيادة كبيرة في الأقساط للعام القادم، وخصوصاً انه جرى ربطُها بمفعول رجعي يعود إلى تشرين الأول 2023. وان تحرير الايجارات "جريمة ستؤدي إلى إقفال عشرات آلاف المؤسسات، بخاصة الصغيرة والمتوسطة، ورمي مئات الآلاف من أصحاب تلك المؤسسات والعاملين فيها في المجهول"، بحسب كلمة أمينة سر لجنة الدفاع عن حقوق المستأجرين ماري ناصيف الدبس خلال المسيرة الاحتجاجية في شارع الحمرا.

الحقائق والأرقام تدحض حملة التهويل التي تقاد على مختلف المستويات، فالاتفاق بين رابطة المعلمين والمدارس الخاصة كان على استعادة الأساتذة كامل قيمة رواتبهم في العام الدراسي 2025_2026، وذلك بعد رفعها 30 في المئة بالدولار في العام 2024 و65 في المئة في العام 2025، و100 في المئة في العام 2026. وعليه من المنطقي ان تُحسم النسبُ من الرواتب بقيمتها الفعلية. ولمزيدٍ من التطمين وعد نقيب المعلمين في المدارس، نعمة محفوض بان "لا تطالب النقابة بتطبيق القانون بمفعول رجعي، مع العمل على تعديل هذه المادة بقانون يبدأ سريان مفعوله من تشرين الأول 2025ـ من دون أي مفعول رجعي".

أما بالأرقام فان "زيادة المحسومات بنسبة 2 في المئة على الرواتب التي تدفع بالليرة لتصبح 8 في المئة، واقتطاع 8 في المئة على المبالغ التي تعطى بالدولار للاستاذ، لا يفترض أن تضيف على قسط الطالب أكثر من 20 دولار"، بحسب رئيسة اتحاد لجان الأهل وأولياء الأمور في المدارس الخاصة في لبنان. "في حين أن المدارس تتجه بحجة هذا القانون إلى رفع الرسوم على الأهالي بين 30 و50 في المئة، أي اضافة 2500 دولار على التلميذ بالحد الادنى إذا كان القسط السابق 3500 دولار". وتضيف رئيسة الاتحاد أن "مشكلة المدارس تتعلق بالتناقض الذي وقعت فيه نتيجة إلزامها بالحصول على براءة الذمة من صندوق تعويضات نهاية الخدمة. غالباً ما تعمدُ بعض المدارس إلى نفخ موازنتها المقدمة إلى وزارة التربية بإعداد الأساتذة لكي تبرر الأقساط التي تفرضها، في حين تصرح بالعدد الحقيقي من الاساتذة لـ"الصندوق"، إن لم يكن أقل، لتخفيف الاعباء.

قانون الإيجارات وإفلاس المؤسسات

بالنسبة للإيجارات السكنية فان الوضع لا يختلف كثيراً، فالتخويف من إفلاس الشركات والمؤسسات وصرف الموظفين يتناقض مع الأرقام، فبحسب المعلومات المستقاة من وزارة المالية، فان نسبة الإيجارات غير السكنية القديمة لغاية العام 2019 تشكل 22.9 في المئة فقط من مجمل الإيجارات، وهناك أقل من 25 ألف وحدة إيجار قديم مقابل 87 ألف وحدة إيجار جديد. "وقد تراجعت نسبة قدامى المستأجرين إلى أقل من 20 في المئة حاليا نتيجة انخفاضها السنوي الطبيعي بنسبة 1 في المئة"، بحسب ما تؤكد رئيسة الهيئة اللبنانية للعقارات المحامية أنديرا الزهيري. "وغالبا ما تتركز هذه الإيجارات في المدن الاساسية، وليس في القرى ومناطق الأطراف التي تضررت نتيجة العدوان. وتبدأ قيمة الايجارات القديمة بـ 10 دولارات في العام. وهو ما لا يشكل انتهاكاً صارخاً لحقوق المالكين فقط، إنما أيضا منافسة غير مشروعة". أصحاب المهن الحرة والتجار وأصحاب الشركات من المستأجرين القدامى يتقاضون بحسب الزهيري "أتعابهم بالدولار النقدي ويسددون ايجاراتهم بمبالغ زهيدة جداً". أما فيما يتعلق بتحجج البعض بأن الدولة بصفتها مستأجرة تتكبد المزيد من النفقات، فيغيب عن بالهم بحسب الزهيري أن "الدولة ايضاً مالكةٌ قديمة تؤجر عقاراتِها بمبالغ متهاوية لتجار يعودون ويؤجرونها على الأسعار الرائجة حالياً. وهذه عملية احتيال كبيرة وهناك عشرات الادلة والبراهين على ذلك".

المفاوضات التي غالباً ما يتخللها محاولة كل طرف "شد اللحاف" إلى جهته، حولتها الفوضى اللبنانية إلى تعمد الطرف الأقوى الإسئثار بـ"كل اللحاف". وهذا ما لا يرتدُّ سلباً على الفئات الضعيفة والمهمشة فحسب، إنما على ثقة المستثمرين، والتوزيع غير العادل للمداخيل، وحرمان الاقتصاد من تحسين القدرة الشرائية لشريحة كبيرة من المستهلكين، سواء كانوا اهالي الطلاب أو قدامى المالكين. الأمر الذي يتطلب العودة إلى المنطق وتطبيق القوانين بعيداً عن مصلحة بعض المتنفذين.