في انتظار تطبيق اللامركزية الإدارية، وفي مبادرة فريدة تُتيح لسكان منطقة واحدة (المحافظات أو الأقضية) فرصة تطوير البيئة الإقليمية، وُلدت فكرة إنشاء صناديق مالية إدارية إقليمية.

هذه الصناديق استثمارية إقليمية تُموّل مشروعًا محليًا، مثل مستشفى خاص أو متخصص ، أو محطة معالجة مياه شرب، أو موزع كهرباء مستقل يُوفّر إنارة الشوارع والأماكن العامة، أو دار رعاية مسنين، أو حتى متحف أو مكتبة أو مسرح.

الهوية القانونية

تُصدر الجهات الرسمية التراخيص القانونية اللازمة عند الإنشاء، وتُحدد هوية الصندوق بعد التحقق من مواصفاته وامتثاله للقوانين والمعايير المعمول بها. التعاونية، أو الجمعية، أو المؤسسة... تُقدّم الجهة المسؤولة الطلب الكامل، ودراسة الموقع، وملف التكلفة للموافقة التنفيذية. الصندوق غير ربحي، هدفه الأساسي والنهائي هو تنمية المجتمع وتقديم نموذج للعمل والتخطيط المجتمعي الناجح لإنعاش بلدة أو قرية أو مدينة. من المتوقع ألا تُفرض على هذا الكيان ضرائب ورسوم، بل سيُعفى منها.

تستند هذه المبادرة إلى أمثلة ملموسة من دول أوروبية مثل فرنسا وبلجيكا وألمانيا وسويسرا، حيث أثبتت الإدارات الإقليمية فعالية هذا النموذج في التنمية المحلية. ومما يُشجع على هذا المثال عجز القانون البلدي الحالي عن وضع تشريعات تضمن الاستقلال المالي، مما يحصر دور البلديات في الرقابة والمتابعة.

يُوفر إنشاء صناديق التنمية الإقليمية هذه الدعم الأساسي للبلديات، مما يُغني عن طلب التبرعات المالية أو المساعدات التقنية كلما احتاجت المنطقة إلى مشروع حيوي. ويُمكن الوصول بسهولة إلى تمويل الصندوق من خلال مجلسه التنفيذي الخاص.

دور الدولة

تتطلب المراجعة القانونية لمثل هذا المشروع تشريعًا خاصًا يسمح بإنشاء هذه الصناديق بالتنسيق مع البلديات التي تمتلك بيانات شاملة عن سكان المنطقة، ويؤكد حق البلدية في تحصيل الضرائب المحلية.

إدارة الصندوق مستقلة، وتشرف عليها شركة تدقيق خاصة. وكما ذُكر سابقًا، فهو ليس نشاطًا ربحيًا. تنشر حساباتها الدفترية سنويًا، وتُجري جردًا لجميع المشاريع الممولة وتلك قيد المراجعة، بناءً على احتياجات المنطقة. وبمجرد تنفيذ المشروع، يتم تعيين مديرية خاصة لضمان استقلاليته. وتظل الأموال، مثل المشاريع، معفاة من الضرائب، ولكن يُمكنها المساهمة، من خلال قانونها التأسيسي، في دعم مالية البلدية.

المزايا الاجتماعية وآلية التمويل

يشارك السكان مباشرةً في تمويل هذه الصناديق من خلال مساهمة سنوية عادلة "إلزامية" مرتبطة بقيمة العقار المشغول (ملكية أو إيجار). تُحدد إدارة الصندوق الإقليمي الأولويات المطلوبة لكل منطقة من خلال مقترحات ودراسات تُعرض على لجنة من المندوبين، الذين يُصوّتون على الأفضل من حيث الأولوية، بما في ذلك "حاجة" المنطقة لهذا النوع من المشاريع.

يضع كل صندوق ذو الإدارة الذاتية، كما ذُكر سابقًا، خطة تنفيذية وتشغيلية، وتُراقب عملياتُه وآداؤه ويُحاسب عليها من خلال شركة تدقيق مستقلة. الفكرة الأساسية هي المشاركة الفعالة للقطاع الخاص وإشراك المواطنين في صنع القرار المتعلق بالتنمية الإقليمية، أي المشاركة في تحديد مصير المنطقة وهويتها الاقتصادية والاجتماعية والثقافية.

مفهوم المنطقة

فيما يتعلق بتعريف مفهوم المنطقة، يبقى الإطار الجغرافي والإداري للبلديات القائمة هو أبسط أشكاله. يمكن للبلدية التي تضم عددًا كافيًا من السكان (ملّاكًا أو مستأجرين) وشاغلي المباني التجارية (مكاتب، مستودعات، مباني صناعية، متاجر، صالات عرض، إلخ) أن تشجع بنفسها إنشاء صندوق تنمية. ويمكن للبلديات الأصغر حجمًا أن تختار الشراكة مع البلديات المجاورة لإنشاء صندوق موحد لتجميع مواردها وقدراتها.

وتلعب البلدية دورًا استشاريًا رئيسيًا في إصدار تصاريح الاستثمار للمباني أو الأراضي أو الممتلكات المشتركة من أجل إنشاء هذه الصناديق وتشغيلها. ويقتصر دور أي جهة رسمية على ذلك، إذ يُنشأ الصندوق من قِبل المواطنين، رجالًا ونساءً، الذين يتحملون المسؤولية بشكل مباشر على المستوى المحلي. وتُعدّ فكرة المساءلة المباشرة للمواطنين السبب الرئيسي لفعالية الأداء المُثبتة، حيث يُحاسب المواطنون المكلفون بالصندوق على أدائهم، ويدفعون المال ويراقبون أدائهم ويتوقعون النتائج. وتساهم هذه الأموال في إنفاق رشيد ومفيد ورؤيوي لمستقبل المنطقة، ريثما يتم تنفيذ مشروع اللامركزية الإدارية.

التحديات والاتجاهات المستقبلية

* التعقيد الإداري والبيروقراطية - هناك حاجة إلى جهود لتبسيط الإجراءات.

* الفجوة بين الريف والحضر - إيلاء اهتمام أكبر لإنعاش المناطق الريفية والمحرومة.

* المناخ والتحول الرقمي - زيادة تمويل المشاريع الخضراء والتكنولوجية.

*دعمًا لهذا المقترح، النموذج الفرنسي.

في فرنسا، تُدعم المشاريع المجتمعية بمجموعة من القوانين الوطنية والسياسات الإقليمية وبرامج تمويل الاتحاد الأوروبي. (هذا الأخير غير متوفر في لبنان، وقد لعبت الوكالة الأمريكية للتنمية الدولية هذا الدور قبل سحب التمويل الأمريكي). تشجع الحكومة الفرنسية مشاركة المواطنين، والابتكار الاجتماعي، والتنمية المحلية من خلال أطر قانونية وآليات مالية متنوعة.

فيما يلي لمحة عامة عن القوانين الرئيسية الداعمة للمشاريع المجتمعية:

أ) قانون الاقتصاد الاجتماعي والتضامني - غير موجود في لبنان.

* يعترف هذا القانون بالمؤسسات الاجتماعية مثل التعاونيات والجمعيات والمؤسسات التعاونية - المتوفرة في لبنان.

* يُقدم مزايا ضريبية ويتيح إمكانية الحصول على تمويل للمشاريع ذات الرسالة الاجتماعية أو البيئية.

* يُشجع مشاركة المواطنين في الأنشطة الاقتصادية.

ب) قانون التحول الطاقي من أجل النمو الأخضر - قدمت وزارة البيئة اللبنانية قانونًا ظل سريًا.

* يُشجع مشاريع الطاقة المتجددة المجتمعية (مثل مزارع الرياح المجتمعية والتعاونيات الشمسية).

* يُمكّن من التمويل الجماعي لمبادرات الطاقة المحلية.

* يُمكّن من جمع التبرعات لمبادرات الطاقة المحلية.

ج) قانون إصلاح اللامركزية

* يُعزز السلطات الإقليمية والمحلية في إدارة المشاريع المجتمعية.

* يُشجع التعاون بين البلديات (مثل المدن الكبرى والبلديات).

د) الموازنة التشاركية

* تُخصص بعض المدن الفرنسية (باريس، ليون، رين) جزءًا من ميزانيتها لمشاريع يقترحها المواطنون.

* مثال: تُخصص باريس 100 مليون يورو سنويًا للمشاريع المشتركة (منذ عام 2014).

هـ) قانون إنشاء الجمعيات التعاونية منذ عام 1901

* يُوفر إطارًا قانونيًا للمنظمات غير الربحية.

* يُبسط إنشاء جمعيات المواطنين (أكثر من 1.5 مليون جمعية في فرنسا). تمويل ودعم المشاريع المجتمعية

* تُموّل المنح الوطنية والإقليمية - خطة الإنعاش الفرنسية - المشاريع الخضراء والاجتماعية.

* الوكالة الوطنية للتماسك الإقليمي - تدعم التنمية المحلية في المناطق الريفية والمحرومة. • المجالس الإقليمية (القائم مقاميات في لبنان) - تُقدم منحًا للمشاريع الثقافية والبيئية والاقتصادية.

أمثلة على مشاريع مجتمعية ناجحة في فرنسا

أ) المبادرات الحضرية والبيئية (الطعام الجيد) - حركة البستنة الحضرية - سوبر ماركت تعاوني في باريس (لا لوف) - أول سوبر ماركت تعاوني.

ب) الإدماج الاجتماعي والإسكان - مشاريع التعايش - مطابخ مجتمعية تُكافح العزلة - تعاونيات الطاقة المتجددة - مزارع طاقة الرياح والطاقة الشمسية التي يقودها المواطنون - تعاونيات الطاقة الخضراء - مكتبات الشوارع في الأحياء الفقيرة.

نموذج مُعدّل للبنان:

كيفية إطلاق مشروع مجتمعي في فرنسا

الخطوة 1: اختيار الهيكل القانوني

* تتوفر في لبنان جمعية - أبسط أشكال المنظمات غير الربحية - وهي صندوق تضامن للمواطنين، رجالًا ونساءً.

* التعاونيات - شركات مملوكة للعمال.

الخطوة 2: البحث عن التمويل

* السلطات المحلية (البلدية، الإدارة، المنطقة).

* دعوات لتقديم مشاريع من الوزارات (مثل وزارتي البيئة والثقافة).

* منح أوروبية في جميع أنحاء أوروبا وفرنسا.

الخطوة 3: إشراك المجتمع

* استخدام أدوات الديمقراطية التشاركية، على سبيل المثال، قيام مجموعة من المواطنين بفتح حساب تضامني في أحد البنوك.

ختامًا، تُسهم فكرة الصناديق الإدارية المالية المركزية وتطبيقها في خلق تنافس بين المناطق من حيث تنمية كل منها ونجاح مشاريعها. كما تُسهم في التنمية الشاملة للبلاد وبنيتها التحتية، مما يُعزز الرفاه المحلي والسياحة.