سيتغيّر وجه الشرق الأوسط، بل بدأ يتغيّر فعلاً بعد اغتيال الأمين العام لحزب الله السيد حسن نصرالله، لكنّه قد لا يأتي بما تشتهي سفن إسرائيل، لأنّ ما سبق هذا الاغتيال وما يتوقّع أن يليه دلّ ويدلّ إلى أنّ المنطقة فعلاً ذاهبة إلى تغيير حقيقي يعيد النزاع بين القوى المحلية والإقليمية والدولية إلى أساسه، ويطلق العنان لحرب عالمية ثالثة تدور رحاها فعلاً منذ أن انطلقت الحرب الروسية ـ الأوكرانية، ولن تنتهي إلّا بنشوء عالم جديد وضمنه شرق أوسط جديد.

فاغتيال السيد نصرالله ليس الأول لبنانياً، ولكنّه ليس ككلّ ما سبقه من اغتيالات ارتكبتها القوى القابضة على زمام الأمور، والتي تدير النزاعات المحلّية والإقليمية والدولية في الاتجاهات التي تخدم مصالحها، ولكنّ حركة النزاع في المنطقة هي في أساسها تدور بين محورين، المحور الأميركي وحلفائه الذي يتخذ من إسرائيل القاعدة بل رأس الحربة، ومحور المقاومة الذي يتخذ من إيران القاعدة ورأس الحربة، ويبدو أنّ هذا النزاع دخل في مرحلة الحسم والتصفيات النهائية، ولكن لا يمكن التكهن بموعد انتهائه نظراً لتناسله وتعدّد جبهاته.

وبات واضحاً وجليّاً أنّ المحور الأميركي بدأ ما يشبه "الهجوم المضاد" ضدّ المحور الآخر مستهدفاً إنهاء عناصر قوته، التي بلغت ذروتها بتهديد وجود إسرائيل في عملية "طوفان الأقصى" التي تحلّ ذكراها الأولى هذه الأيام وهي ما تزال منطلقة على غاربها، ومرشّحة لأن تشهد مزيداً من الفصول.

ويبدو أنّ الهجوم الأميركي ـ الإسرائيلي المضاد يقضي بالتركيز على الرأس قبل محاولة الإجهاز على الجسد، وهو الذي فشل في تحقيق الهدف بدليل أنّ إسرائيل لم تتمكّن حتّى الآن من الحسم في الميدان، ومنيت بفشل إستراتيجي على سبع جبهات هي غزة والضفة الغربية ولبنان وسوريا والعراق وإيران واليمن، ولذلك فإنّ اغتيالها للسيد نصرالله بعد سلسلة من الاغتيالات التي طاولت بعض "أركان حربه" وقبله الاغتيالات لقيادات كبيرة في حركة حماس (ومنهم اسماعيل هنية وصالح العاروري وغيرهما) يندرج على ما يبدو في إطار مخطط للقضاء على الرؤوس الكبيرة لـ" محور المقاومة"، وليس مستبعداً أن يكون على لائحة الاغتيالات رؤوس في سوريا والعراق وإيران واليمن، حيث أنّ رئيس حركة "انصار الله" عبد الملك الحوثي أول المستهدفين، فمن اغتال هنية في عمق طهران قد لا يتورّع عن اغتيال قيادات إيرانية كبيرة، مع العلم أنّ إسرائيل اغتالت قيادات عسكرية إيرانية كبيرة في سوريا وفي لبنان، آخرهم مسؤول الحرس الثوري في لبنان الذي يقال إنّه قضى مع السيد نصرالله الذي كان مجتمعاً معه لحظة الاغتيال.

والخطّة الإسرائيلية بالنسبة إلى لبنان بعد اغتيال السيد نصرالله وأركان حربه هي محاولة الاجتياح البري، بعد استكمال أهداف الاجتياح الجوي ومحاولات اغتيال من تبقّى من قيادات مؤثرة في المقاومة من لبنانيين وفلسطينيين، إذ يكاد لا يمر يوم إلّا ويُسجّل حصول واحدة منها.

وعندما أعلن بنيامين نتنياهو الحرب على حركة حماس بهدف القضاء عليها غداة عملية طوفان الأقصى، قال إنّه سيخوض حرباً "لتغيير وجه الشرق الأوسط"، وبالطبع لم يكن يقصد بهذه الحرب "حماس" وحدها، وإنّما حزب الله وكلّ أطراف محور المقاومة الذي يجد فيه "خطراً وجودياً" على إسرائيل وعلى رأسه إيران، وذلك لاعتقاده بأنّ القضاء على "حماس" و"الحزب" تحديداً سيغير وجه المنطقة لأنّه لن يعود فيها أيّ مقاومة للاحتلال الإسرائيلي بغية إقرار الحقوق المشروعة للشعب الفلسطيني في إقامة دولته المستقلة وعاصمتها القدس، سواء بموجب "حلّ الدولتين" أو أيّ صيغة أخرى.

ولقد ذهب نتنياهو إلى الحرب متسلّحاً بالدعم الأميركي والغربي السخي الذي قدّم له، بذريعة أنّ اسرائيل تتعرّض لخطر وجودي شكّلته عملية طوفان الأقصى التي أصابت قوّة الردع الإسرائيلية بمقتل. الأمر الذي دفع الولايات المتحدة الأميركية إلى الخروج من ديبلوماسيتها المعهودة إلى يهوديتها، فالرئيس الأميركي جو بايدن أكّد انتماءه إلى الصهيونية وقال "إذا لم تكن هناك إسرائيل فعلينا أن نوجد هذه الإسرائيل"، فيما قال وزير خارجيته انطوني بلينكن لدى وصوله إلى تل أبيب إثر"الطوفان" أنّه يزور إسرائيل للوقوف إلى جانبها بصفته يهودياً قبل أن يكون وزيراً للخارجية الأميركية.

وثمّة من يقول إنّه بعد اغتيال السيد نصرالله بذلك القصف التدميري، بدأ الشرق الأوسط يتغير فعلاً، لكن ليس على الطريقة التي يريدها أو يتحدث عنها نتنياهو اليوم، ناظراً إلى المنطقة بمنظار الحروب ضدّ شعوبها ودولها تحت عنوان "الدفاع عن إسرائيل المهدّدة بخطر وجودي" قبل طوفان الأقصى وبعده.

وقيل إنّ نتنياهو الذي أعدّ خطة اغتيال نصرالله كان لا يريد السفر إلى نيويورك لإلقاء كلمة أمام الجمعية العمومية للأمم المتحدة، لكنّه غيّر رأيه في اللحظة الأخيرة إذ جاءه من نصحه بأنّ عليه أن يذهب إلى نيويورك، لأنّ عدوله عن السفر سيثير الشكوك ويدفع قيادة حزب الله إلى اتخاذ احتياطات يمكن أن تحبط عملية الاغتيال أو تمنعها، وأنّ عليه الذهاب إلى نيويورك لتنفذ العملية أثناء وجوده هناك، وهكذا كان.


هي معركة تغيير الشرق الأوسط تلك التي تدور خلف كلّ الحروب التي تشهدها المنطقة

خطر على بري

في التداعيات الداخلية لاغتيال نصرالله، يقول مصدر مطلع إنّ الأنظار ينبغي أن تتركز على ما سيكون عليه تعاطي الفرقاء السياسيين، ولا سيما منهم فريق المعارضة مع "الثنائي الشيعي"، كون السيد أحد ركنيه إلى جانب رئيس مجلس النواب نبيه بري. فهل يتصرف المعارضون على أساس استضعاف الثنائي أو اعتبار أنّه ضعف وبات في الإمكان دفعه إلى تقديم تنازلات في الملفات الداخلية، وفي مقدمها الاستحقاق الرئاسي؟ أم يتصرف بمنطق هادىء وملاقاة الفريق الآخر فعلياً إلى مساحة مشتركة تنقذ البلاد مما هو آتٍ من عظائم الأمور؟

وفي المعيار الأمني، ذهب البعض إلى التحذير من خطر يمكن أن يحدق ببري الركن الثاني للثنائي. ويرتكز هؤلاء في تحذيرهم على الافتراض بأنّ لاغتيال نصرالله وجهاً داخلياً هدفه تقويض قوة "الثنائي الشيعي" وصموده وصعوده السياسي وعدم اهتزازه منذ سنين طويلة بخلاف ما حصل لثنائيات وأحزاب كبرت ثم صغرت أو تفككت واندثرت.

إيران تحت المجهر

وفي التداعيات الإقليمية، يلقى اغتيال نصرالله على محور المقاومة وفي مقدمه إيران مسؤوليات كبيرة للردّ عليه بما يحبط الأهداف الكامنة وراءه، إذ إنّ طهران باتت تحت مجهر كلّ أطراف المحور المقاوم من جهة، والأطراف الآخرين من خصوم وغير خصوم من جهة ثانية، إذ عليها أن تبادر إلى قطع الشكّ باليقين خصوصاً بعد الكلام الذي راح يطلقه البعض عن أنّها "باعت" حلفاءها لتحقيق مصالحها مع الولايات المتحدة الأميركية وبقية الدول الغربية، وقد اعتبر البعض المواقف التي أطلقها الرئيس الإيراني مسعود بزشكيان في الأمم المتحدة وأبدى فيها الانفتاح على الغرب وعلى الولايات المتحدة الأمريكية تحديداً، مؤشّراً إلى دخول طهران في تسويات على حساب حلفائها في محور المقاومة. وهو الأمر الذي نفاه الإيرانيون، خصوصاً كلامه عن أنّ حزب الله لا يمكنه أن يواجه إسرائيل التي تدعمها واشنطن والغرب عموماً، وردّوا الأمر إلى خطأ في الترجمة...

ولقد كان متوقّعاً أنّ التدرّج الإسرائيلي في عمليات الاغتيال التي شملت القادة العسكريين الذين يشكّلون "المجلس الجهادي" لحزب الله الواحد تلو الاخر، سينتهي بالسيد نصرالله، فهو رئيس هذا المجلس إلى جانب كونه الأمين العام للحزب، وهؤلاء كانوا معه "رفاق سلاح" ويشكّلون ما يسّمونه في أدبيات الحزب السياسية "مجموعة الـ 82 " التي كانت في أساس الهيكل التنظيمي السياسي والعسكري للحزب الذي نشأ بعد الاجتياح الإسرائيلي عام 1982.

اذاً، يقول المصدر المطّلع، هي معركة تغيير الشرق الأوسط تلك التي تدور خلف كلّ الحروب التي تشهدها المنطقة، ولا سيما منها الحرب الإسرائيلية على غزة ولبنان، ومن سيربحها هو الذي سيرسم الشرق الأوسط الآتي من هذا التغيير، فإمّا يكون شرق أوسط تطبيعياً تقوم ضمنه "إسرائيل الكبرى الدولة اليهودية الخالصة من النهر إلى البحر"، بعد تصفية الوجود الفلسطيني قتلاً وتهجيراً من الضفة والقطاع، وأمّا شرق أوسط تكون ضمنه "دولة فلسطين التاريخية من النهر إلى البحر" محرّرة من جميع القيود. ولذلك لا أوهام لدى أحد أنّ الحرب الدائرة ستتوقف ما لم يتحقق فيها قيام أحد هذين الشرقين الأوسطيين.

ولذلك يقول مصدر في محور المقاومة إنّ المعركة بين هذين الشرقين طويلة ومعقدة لأنّها، شيئاً فشيئاً، تأخذ طابع الحسم وكسر العظم، وربما يكون اغتيال السيد نصرالله بداية المؤشّر القوي إليها وإلى ما ستشهده من فصول في قابل الأيام ...