تصدّر سماسرة الأزمات المشهد الاجتماعي في لبنان من جديد. وهذه المرة من باب "إيجارات الشقق"، حتى بات مصير كلّ من رفض النزوح إلى المدارس الرسمية ومراكز الإيواء، مرهوناً بطمع هؤلاء، الذين وجدوا في معاناة النازحين من أهل الجنوب والبقاع فرصة جديدة لتحقيق أرباح غير عادلة. لذا، لم تعد المسألة مشكلة عرض وطلب، فالأول موجود مهما ارتفع الثاني، بل هي معضلة "حاجة وطمع". حاجة من رفض الإذلال والتسوّل مقابل طمع من باع ضميره أو تركه في إجازة.

وفي جولة لـ"الصفا نيوز" على أسعار بعض إيجارات الشقق في عدد من المناطق اللبنانية، تبيّن أنّ أرخص إيجار منزل غير مفروش في منطقة بيروت يبدأ من 1,000 دولار وقد يتخطّى الـ2,000 بشرط الدفع 6 أشهر سلفاً، أو في بعض الأحيان يشترط المالك الدفع سنة مسبقاً.

وفي المناطق الجبلية مثل عالية وصوفر، ارتفعت الأسعار بشكل كبير، إذ كان إيجار شقة بغرفتين 800 دولار، لكنه الآن يراوح بين 3,000 و4,000 بشرط دفع ستة أشهر مقدماً.

وإلى ذلك، تروي زينب فياض، وهي إحدى النازحات من الجنوب، لـ"الصفا نيوز" أنّ "السماسرة يستغلّون الأوضاع لرفع الأسعار بشكل جنوني، طالبين مبالغ تصل إلى 2,500 دولار لشقة من دون أثاث، أو 3,500 دولار مع أثاث، بينما تتجاوز إيجارات بعض الشقق الفاخرة 6,000 دولار".

في ما يتعلق بالإقامات القصيرة، لم يكن الوضع أفضل بكثير. فأسعار الشقق على موقعي Airbnb و Dubizzle تبدأ من 400 دولار لليلة الواحدة في بيروت، وترتفع إلى 700 دولار في مناطق عدة مثل جونيه والبترون، وتصل إلى 1,000 دولار في المتن وكسروان.

أمّا الفنادق في المناطق الجبلية فحدّث ولا حرج، إذ كشف عدد من النازحين من منطقة سحمر إلى خربة قنافار في البقاع الغربي أنّ فاتورة استضافتهم في الفندق تخطت الـ250 دولاراً لليلتين. ويذكر أنّ بلدة سحمر كانت قد تعرّضت لقصف مفجع على مدى أسبوع كامل، وهذا ما أجبر السكان على النزوح بعدما دُمّرت منازلهم تدميراً كاملاً، فتوزعوا على المناطق المجاورة مثل القرعون وجب جنين وصغبين وعين زبدة وخربة قنافار وزحلة.

نتيجة لهذه الظروف، اضطرت عائلات عدة إلى افتراش الساحات العامة بسبب الارتفاع الهائل في أسعار الشقق وضعف قدرتهم الشرائية. فأخذت بعض الأسر من رصيف صخرة الروشة والمنارة بيتاً لها، في مشهد مهين يؤكّد فشل خطط الطوارئ في لبنان، حيث تعاني الدولة قصوراً في توفير الملاجئ، والغذاء، والدواء، وسبل العيش الأساسية للنازحين.

ثمّة قسم آخر من النازحين علق في سياراته، كفاطمة عباس النازحة من النبطية، والتي قالت لـ"الصفا نيوز" إنّها اضطرت إلى البقاء مع عائلتها في السيارة طوال الليل بعد وصولهم إلى بيروت وتعذّر العثور على مأوى. لاحقاً، تمكّنت من الحصول على غرفة في إحدى مدارس الإيواء، لكنها وصفت الوضع بأنه غير مناسب في حال استمرار الحرب.

كذلك تعرّض العديد من النازحين لسكتات قلبية، أو خضات صحية أودت بحياتهم وهم عالقون في سياراتهم على خطّ صيدا-بيروت.

في هذا الإطار، تقول لـ"الصفا نيوز" الناشطة نعمة بدر الدين، في حملة "بيتي بيتك"، التابعة لحركة وعي، أنّ مشهد استغلال الأزمة يكرر سيناريو 4 آب، إذ حالما يعرف صاحب الملك أن المستأجر نازح، يرفع السعر الحقيقي أضعافاً مضاعفة، شارحةً أنّها بحثت عن مسكن لإخوتها قبل 3 أسابيع من تفاقم الحرب، وكانت الأسعار 1,000 دولار، ثم أصبحت 2,000، ووصل بدل إيجار المنزل نفسه مع اشتداد الأزمة إلى 2,500.

أما في الحازمية، بحسب بدر الدين، فتبدأ الأسعار من 1,000 دولار بشرط الدفع سنة سلفاً، في حين يبدأ إيجار المنزل في الحمرا من 1,500 والدفع 6 أشهر سلفاً، وفي صوفر 1,800 في الشهر الأول، و800 في الشهرين الثاني والثالث، على أن يُدفع المبلغ كاملاً. ويروي أحد المحامين تجربته مع سمسار اشترط عليه دفع 32 ألف دولار عن عام كامل، محدّداً عدد الأشخاص المسموح بسكنهم في المنزل. وحتى في عكار، حيث الإيجارات لم تتجاوز يوماً حاجز الـ 200 دولار، وصل بدل إيجار المنزل إلى 1,000 بشرط الدفع 3 أشهر سلفاً".

وكشفت بدر الدين عن محاولات نصب واحتيال يقع ضحيتها النازحون، إذ "اتصل هؤلاء بأشخاص وحولوا إليهم مبلغاً من المال لحجز المنزل المفترض أنّه في بقعاتا، وبعد وصولهم إلى المنطقة عقب 15 ساعة قيادة بسبب الزحمة الخانقة، تبيّن لهؤلاء الأهالي أنّ لا شقة بانتظارهم، إذ أقفل صاحب الرقم خطّه، ولم يرد على أي من الاتصالات، فتُركت العائلة في منتصف الليل في الشارع. كما تحدثت عن المنشورات الكاذبة التي تزعم تأمين 20 أو 40 منزلاً في منطقة غوسطا أو طرابلس مثلاً، ويضع أصحابها رقم هاتف، وبعد وصول النازحون إلى الشقة، يتبين أنها تعود إلى سمسار، وهي ليست مقدمة مجاناً. هكذا يقعون ضحايا ابتزاز السمسار بعدما وصلوا مع أسرهم، ثم يضطرون إلى دفع مبالغ ضخمة. كما كانت هناك محاولات سرقة للسيارات والدراجات النارية وأموال النازحين".

ولفتت بدر الدين إلى معضلة الشقق المفروشة، "التي تصل إيجاراتها إلى أرقام خيالية، وهو ما يفرض على مالك المنزل اللجوء إلى شقق غير مفروشة ليتكبّدوا عناء تأمين فرش، وهنا يأتي الاحتكار إذ ارتفع سعر الفرشة من 11 دولاراً، مع بداية موجة النزوح، ليصل اليوم إلى 35 دولاراً! فيما لم تعد معامل الفرش في دير عمار، وطرابلس، والعبده، تُسلّم فرشاً. أما في الأوزاعي فكان سعر الفرشة 5 دولارات، وقد أتت جهة مجهولة واشترت الكمية كلها، فاحتكرتها، وراحت تبيعها بـ35 دولاراً. أما الأغطية فيبدأ سعر الغطاء الواحد من 7 دولارات، فيما "التكاية" في بعض الأماكن بدولار واحد أما في مناطق أخرى بـ6 دولارات".

وتابعت "نواجه اليوم أيضاً أزمة في تأمين الملابس الشتوية، وخصوصاً الملابس النسوية، وهناك نقص حاد في هذا المجال، لذلك نحاول إطلاق حملات لجمع التبرعات، وتأمين هذه السلع".

عل مقلب آخر، ظهرت مبادرات تصفها بدر الدين بـ"الرائعة، في مناطق عكار، وطرابلس، وزغرتا على وجه الخصوص، وفي كفريا والبقاع الغربي، حيث فتح عدد من الأهالي منازلهم المفروشة بالمجان، وكذلك فتحت الفنادق والمحالّ التجارية أبوابها مجّاناً لاستقبال الناس".

وانتقدت بدر الدين أداء الحكومة لتقصيرها في تلبية حاجات النازحين، وتحدثت عن فراغ كبير ناتج من عدم تحرك المنظمات الدولية لإعانة النازحين. ورأت أن هذه الحرب تسبب بها حزب الله، فيما النازحون هم من جمهوره، وبذلك تحاول هذه المنظمات الضغط على بيئة الحزب لتنقلب عليه. وقارنت طريقة معاملة النازح الأوكراني بطريقة معاملة نازحي غزة ولبنان.

وحتى كتابة هذه السطور، كان قد وصل عدد الشهداء منذ اشتداد العدوان الإسرائيلي على لبنان، الاثنين، إلى أكثر من 700 و2,600 جريح بحسب أرقام وزارة الصحة، وهو رقم فاق أعداد الشهداء في حرب تموز التي استمرت 34 يوماً.

وبرز العديد من المبادرات الخيرية، أصحابها منظمات غير حكومية، أو جمعيات، أو حتى أفراد قاموا بحملات إغاثة وبتقديم مساعدات إلى النازحين.

وأطلقت منظمات غير حكومية حملة لجمع مساعدات عاجلة من أجل دعم عشرات الآلاف من النازحين جراء القصف الجوي الإسرائيلي على لبنان، داعيةً إلى وقف "فوري" للأعمال العدائية وحماية إمكان الوصول إلى المساعدات.

ومن المنظمات كير (CARE) التي أطلقت استجابة إنسانية لمساعدة السكان المتضرّرين الذي أُجبروا على النزوح.

وقال المدير الوطني لمنظمة "كير-لبنان" مايكل أدامز إنّ "الوضع متوتر جدّاً في لبنان. فجميع الطرق المؤدية إلى بيروت من الجنوب ومن سهل البقاع مكتظة بالسكان الذين يحاولون الفرار من القصف، تاركين كلّ شيء وراءهم". وأضافت المنظمة في بيان أنّ السكاّن يعيشون في خوف منذ أسابيع، بينما تشهد البلاد أزمة اقتصادية قاسية.

وأطلقت "أوكسفام" دعوة إلى جمع المساعدات للنازحين "عبر تزويدهم بمياه الشرب ومرافق الصرف الصحي والنقود التي يحتاجون إليها بشكل طارئ والغذاء ومستلزمات النظافة".

وقال رئيس قسم التبرّعات في أوكسفام-فرنسا جيريمي مورين في بيان إنّ "الروابط بين فرنسا ولبنان لطالما كانت مهمّة، وفي وضع بهذه الخطورة نأمل أن يكون التضامن موجوداً".

وفي السياق نفسه، دعمت بضع منظمات مثل "لو سوكور" (Le Secours) الفرنسية شركاء محليين. وبعد تقديم دفعة أولى بقيمة 50 ألف يورو، أعلنت المنظمة غير الحكومية أنها ستصرف 100 ألف يورو من صندوق الطوارئ الخاص بها لمساعدة النازحين الذين لجأوا إلى المدارس بشكل خاص، عبر تقديم فرش وبطانيات ووجبات جاهزة ومولّدات كهربائية ومساعدة نفسية.

كذلك أطلقت منظمة "أس أو أس مسيحيو الشرق" (SOS Chretiens d'Orient) نداء لجمع التبرّعات من أجل مساعدة النازحين، وحذرت من "الأزمة الإنسانية التي تجتاح جنوب لبنان"، كما حثت "المجتمع الدولي على العمل من أجل التهدئة الفورية للصراع".

يٌذكر أنّ الغارات الإسرائيلية خلّفت أكثر من 600 قتيل في لبنان، بينهم العديد من المدنيين، بحسب أرقام وزارة الصحة. واضطر أكثر من 100 ألف شخص الى النزوح من منازلهم في جنوب لبنان بسبب التبادل اليومي للقصف بين إسرائيل وحزب الله على خلفية الحرب في غزة. وتضاعف هذا الرقم في الأيام الماضية، إذ دفعت الغارات المكثّفة التي تشنها إسرائيل اعتباراً من الإثنين، نحو 90 ألف شخص إلى الفرار من منازلهم باتجاه بيروت أو مناطق لبنانية أخرى، وحتى إلى سوريا المجاورة، بحسب الأمم المتحدة.