يستعين رئيس مجلس النواب نبيه بري في سرّه وعلانيته في تعاطيه مع المعارضة وموقفها الرافض مبادراته الحوارية المتلاحقة حول الاستحقاق الرئاسي، بمقولة الخليفة العباسي هارون الرشيد عندما خاطب الغيمة في سنة قحط وجفاف قائلاً لها: "أيّتها الغيمة إمطري حيث شئت فإنّ خراجك لي". وربما برّي يحوّرها ويسقطها على الواقع كأن يقول للمعارضة: "أذهبي أنّى شئتِ فمرجوعك إليّ" أو "إذهبي أنّى شئتِ فخراجك لي".
يتعاطى برّي مع موقف المعارضة الرافض الحوار الذي دعا إليه منذ فجر الاستحقاق الرئاسي للبحث في انتخابات رئاسة الجمهورية على أساس أنّها مهما صعَدت في الموقف سلباً، فستكون في النهاية، ومهما طال الزمن، محكومة بالتفاهم مع الآخرين على انتخاب رئيس للبلاد التي لا يمكن أن تبقى بلا رئيس إلى ما شاء الله.
فبرّي من موقعه رئيساً لمجلس النواب المؤسسة الدستورية التي لها وحدها صلاحية انتخاب رئيس الجمهورية، هو العارف الكبير والراسخ في السياسة اللبنانية بل هو من صنّاعها الكبار والرؤوس المدبّرة فيها، يعرف أنّ مرجوع كلّ القوى السياسية، معارضةً وموالاةً، إليه مهما صالت وجالت، لتجلس إلى طاولة حوار في الاستحقاق الرئاسي ومن ثم التوافق على انتخاب رئيس التزاماً بـ"الديموقراطية التوافقية" التي أرساها اتفاق الوفاق الوطني، والتي على أساسها انتُخب كلّ رؤساء الجمهورية منذ إقرار هذا الاتفاق في مدينة الطائف السعودية في تشرين الأول 1979 حتى اليوم، وقد بلغ عددهم خمسة وهم على التوالي: رينيه معوض، الياس الهراوي، اميل لحود، ميشال سليمان، ميشال عون، فكلّ هؤلاء انتخبوا توافقياً، أي لم ينافس مرشح آخر أيّاً منهم، باستثناء الرئيس رينيه معوض الذي كان أول رئيس للجمهورية انتُخب على أساس الدستور المنبثق من وثيقة الوفاق الوطني المعروفة بـ"اتفاق الطائف" وذلك في جلسة انعقدت برئاسة رئيس مجلس النواب الراحل حسين الحسيني في 5 تشرين الثاني 1989 في مطار القليعات (عكار) ونافسه يومذاك رئيس حزب الكتائب جورج سعادة الذي نال 14 صوتاً فقط فيما نال معوض أصوات بقية النواب الحاضرين. ولكن معوض اغتيل في بيروت في 22 من الشهر نفسه يوم عيد الاستقلال، ليُنتخب بعده الرئيس الياس الهراوي خلفاً له في "بارك أوتيل" شتورة بعد يومين من اغتياله.
لا مفر في النهاية من حصول توافق على انتخاب الرئيس الجديد...
ولذلك، فإنّ رئيس المجلس وجميع الراسخين في السياسة اللبنانية يؤكّدون أن لا مفر في النهاية من حصول توافق على انتخاب الرئيس الجديد، ولكن إذا ظلّ الانقسام على غاربه فقد تنتهي ولاية المجلس الحالي ربيع 2026 لتذهب البلاد إلى انتخاب مجلس جديد "يجرّب حظه" هو الآخر في انتخاب رئيس. وقد يفشل إذا أنتجت الانتخابات النيابية التوازنات السلبية التي يجسدها المجلس النيابي الحالي. علماً أنّ البعض لا يستبعد التمديد لهذا المجلس لأنّ قانون الانتخاب المعمول به مختلف عليه وقد يدفع كتلاً وقوى سياسية وطائفية إلى الاستنكاف عن المشاركة في الانتخابات إن تقرر إجراؤها على أساس القانون الحالي المشكو منه. وقد حذر برّي من الوصول الى هذا الدرك قبل أيام، طارحاً مبادرته الحوارية في شأن انتخاب رئيس الجمهورية، معدّلة من حيث تقليص فترة الحوار في هذا الاستحقاق التي تقول بها المبادرة الأساسية من اسبوع إلى خمسة أيام، والذهاب بعدها إلى جلسة انتخاب واحدة تتخلّلها دورات انتخابية متتالية ولا يرفعها إلّا بعد انتخاب الرئيس العتيد.
وقد طرح بري هذه المبادرة في الذكرى الـ46 الأخيرة لتغييب الإمام موسى الصدر السبت في 31 آب المنصرم، ورفضها رئيس حزب "القوات اللبنانية" سمير جعجع في اليوم التالي من معراب خلال القداس السنوي لـ"شهداء القوات اللبنانية"، معتبراً أنّ الحوار المدعو إليه "مفتعل". علماً أنّ "القوات" رفضت، ولا تزال، كلّ المبادرات الحوارية التي طرحها بري والموفد الفرنسي جان ايف لودريان وغيرهما، وذلك تحت عنوان أنّ هذه الحوارات غير دستورية، وأنّ الدستور يقول بأن يدعو رئيس مجلس النواب إلى جلسة لانتخاب رئيس الجمهورية وألّا يرفعها إلّا بعد انتخاب الرئيس بعيداً من تطيير نصابها المكون من أكثرية ثلثي أعضاء المجلس. في حين أنّ الدستور لا يقيّد حرية النائب أو يلزمه بانتخاب رئيس لا يؤيده، ولذلك أعطاه حق مقاطعة الانتخاب أو الانسحاب من الجلسات الانتخابية، حتى ولو أدّى ذلك إلى تطيير نصابها وتعطيل العمليات الانتخابية.
على أنّ الملاحظ هو أنّ كلّ تدخّلات عواصم القرار، ولا سيما منها عواصم اللجنة الخماسية العربية الدولية، لم تتمكّن حتّى الآن من إقناع أيّ فريق بالتفاهم مع الفريق الآخر، أو على الأقلّ التحاور معه لبلورة صيغة تؤدّي إلى انتخاب رئيس الجمهورية.
وفي هذه الأثناء، يأتي التحرك الجديد للمجموعة الخماسية العربية ـ الدولية الذي أطلق عنانه اجتماع الرياض بين لودريان والمستشار في الديون الملكي السعودي المكلّف ملف لبنان نزار العلولا، فأنتج اتفاقاً على أن يجتمع سفراء المجموعة في لبنان في 14 الجاري عند السفير السعودي وليد الخاري الذي كان مشاركاً في اجتماع الرياض، ومن المرجّح أن يقرّر هؤلاء السفراء جولة جديدة على القيادات السياسية والكتل في محاولة لدفعها إلى التوافق على انتخاب رئيس جديد قبل موعد الانتخابات الرئاسية الأميركية في 5 تشرين الثاني، إذا أمكن، سواء حصل اتفاق على وقف إطلاق النار في غزة أو لم يحصل، رغم أنّ لدى الخماسية بعض المعطيات المشجعة في هذا الاتجاه، أقلّه من جانب لبنان.
في المحصّلة، ثمّة اقتناع داخلي وخارجي أنّه في ظلّ الاستعصاء والانسداد المتمادي على مستوى الاستحقاق الرئاسي بات كالعادة لا يمكن انتخاب رئيس غير متفق عليه أو غير متوافق عليه في إطار "الديموقراطية التوافقية" التي تشكّل روحية "اتفاق الطائف" الذي يعلن الجميع تمسّكهم به "دائما وأبداً". علماً أنّ المجموعة الخماسية، وقبلها العواصم المهتمة، اقتنعت وسلّمت بالأمر الواقع الذي أرساه هذا الاتفاق على مستوى الاستحقاقات الدستورية، وهو أنّ انتخاب رئيس البلاد هو شأن داخلي يجب على اللبنانيين بكلّ طوائفهم وقواهم السياسية أن يتحمّلوا دون سواهم مسؤولية إنجازه، وأنّ العواصم الشقيقة والصديقة تزكّي وتدعم أيّ رئيس ينتخبه اللبنانيون، فدائماً في لبنان يُنتخب الرئيس بهذه الطريقة "الداخل يختار الرئيس بالتوافق أو التنافس التوافقي والخارج يزكي من يقع الخيار أو الاختيار عليه".
ولكن الواقع السائد حتّى الآن منذ بداية الاستحقاق هو أنّ بعض القوى السياسية تريد أن تقلب الآية بدفع الخارج إلى اختيار الرئيس ودفع الداخل إلى القبول به، وهذا ما يمكن أن يؤدّي إلى مزيد من الفراغ وانعدام القرار ربما إلى أن تنتهي ولاية المجلس النيابي عام 2026، وهو ما بات رئيس مجلس النواب يحذّر منه هذه الأيام.