لكلّ حرب ظروفها ومعطياتها وحساباتها. إلّا أنّ أعظم حرب تبقى دوماً تلك التي يفوز المرء بأهدافها من دون أن يخوضها. هذا المفهوم ليس بجديد وخير من قاربه هو المؤلف الصيني صن تزو Sun Tzu في كتابه "فن الحرب" الذي صدر في القرن السادس قبل الميلاد، وتُرجم، لأهميته، إلى 29 لغة من لغات العالم. لقد خلص تزو الى أنّ "النصر الأعظم هو ذلك الذي لا يتطلّب قتالاً"، "المقاتل الحكيم هو من يتجنّب المعركة"، "من يرغب في الانتصار، عليه أن يحسب أولاً التكلفة"، "فن الحرب هو فن السلام"، "ذروة فن الحرب هي إخضاع العدو من دون قتال". 

في 12 تموز 2006، اندلعت في لبنان حرب الـ 34 يوماً بين إسرائيل و"حزب الله" عقب أسر الأخير جنديين إسرائيليين في عملية أطلق عليها تسمية "الوعد الصادق"، وحُصر هدفها بتحرير المعتقلين اللبنانيين من السجون الإسرائيلية. وعدٌ أطاح وعد الأمين العام  لـ"الحزب" السيد حسن نصرالله لرئيس الحكومة فؤاد السنيورة على هامش طاولة الحوار في ساحة النجمة ربيع العام 2006، بأنّ "لبنان سيشهد صيفاً هادئاً" يكسبه موسماً سياحياً مزدهراً. فكان صيف حديد ونار حصيلته مقتل 121 جندياً إسرائيلياً و44 مدنياً مقابل قرابة 1200 شهيد من الجانب اللبناني سوادهم الأعظم من المدنيين، وعشرات البلدات المدمرة وضرب للبنى التحتية على مساحة لبنان، الذي تكبّد مئات الملايين من الدولارات بين خسائر اقتصادية مباشرة وغير مباشرة، تفوق الخسائر الإسرائيلية أضعافاً مضاعفة.  

تفرّد "حزب الله" بقرار الحرب يومذاك، ولم يأبه كثيراً بثلاثية الظروف والمعطيات والحسابات، أو لم يقدّرها جيداً، خصوصاً أنّ البلاد كانت في خضمّ مسلسل الاغتيالات والتفجيرات، وتعيش الارتدادات السياسية والاقتصادية لاغتيال الرئيس رفيق الحريري في 14/2/2005 والانسحاب السوري بعد ثلاثين عاماً. إلّا أنّ السيد نصرالله بعد حجم الفاتورة الدموية والمادية التي تكبّدها لبنان جراء "حرب تموز" التي ادّعى فيها أنّه حقق "النصر الالهي"، أطلّ في مقابلة مساء الأحد 27/8/2006 عبر محطة "الجديد"، قائلاً "إنّ قيادة "حزب الله" لم تتوقّع ولو 1% أنّ عملية الأسر ستؤدّي إلى حرب بهذه السعة وبهذا الحجم، لأنّ هذا لم يحصل بتاريخ الحروب... لو علمت أنّ عملية الأسر كانت ستقود إلى هذه النتيجة لما قمنا بها قطعاً". 
"حرب تموز" انتهت في 14 آب 2006 مع ولادة القرار الأممي 1701، فيما صفقة تبادل الأسرى بين إسرائيل و"حزب الله" - التي لأجلها خُطف الجنديان الإسرائيليان – لم تبصر النور إلا بعد سنتين، في 16 تموز 2008، عندما سلّم "حزب الله" جثتي هذين الجنديين مقابل عميد الأسرى اللبنانيين سمير القنطار و4 عناصر من "الحزب" وجثامين نحو 200 مقاتل لبناني وفلسطيني.  

مع القرار 1701، انتشر الجيش اللبناني للمرّة الأولى على الحدود بعدما كان "حزب الله" وفريقه السياسي يرفضان هذه الخطوة بذريعة أنّهما لا يريدان أن يكون الجيش حرس حدود لإسرائيل.  

مع القرار 1701، تنعّمت إسرائيل بأطول فترة هدوء على الحدود مع لبنان منذ انطلاق العمل الفدائي الفلسطيني منتصف ستينيات القرن الماضي. وكان لهذا الهدوء أن يستمر لولا فتح "حزب الله" جبهة الجنوب في 8 تشرين الأول 2024. 

مع القرار 1701، أصبح تحرير مزارع شبعا وتلال كفرشوبا معلّقاً مع "وقف التنفيذ" ولم يُقدم "حزب الله" على أيّ خطوة في هذا الإطار، لا بل شكّل ضابط إيقاع لكلّ المجموعات المسلّحة، وعملياً ضابطاً للحدود. 

مع القرار 1701، أُشيع مناخ تهدئة بين إسرائيل و"الحزب" مهّد عملياً لترسيم تاريخي للحدود البحرية بين إسرائيل ولبنان بعدما فاوض رئيس مجلس النواب نبيه بري عشر سنوات توصّلاً إلى وضع إطار لاتفاق الترسيم. نظرياً، يقتضي مبدأ فصل السلطات أن لا دور لرئيس السلطة التشريعية في التفاوض، وأنّ الاتفاقات الدولية يُعنى بها دستورياً رئيس الجمهورية. أمّا عملياً، فالتفاوض حصل مع بري كونه القناة الرسمية للتفاوض غير المباشر مع "حزب الله".  

في حسابات الميدان، يجاهر "الحزب" أنّ هذه الحرب لا تهدف إلى إسقاط إسرائيل رغم تغنّيه أنّها "أوهن من بيت العنكبوت" بل إلى تسجيل النقاط.

اليوم، مع فتحه جبهة الجنوب في "8 أكتوبر" 2023، مدّعياً أنّها "جبهة إسناد لغزة" و"جبهة ردعٍ لإسرائيل"، يتفرّد "حزب الله" مجدّداً بقرار الحرب كما في العام 2006 ولم يأبه مرّة أخرى بثلاثية "الظروف والمعطيات والحسابات". فـ"الحزب" يدرك أنّ لبنان يعيش في أسوأ ظروفه إذ يعصف فيه انهيار منقطع النظير مالياً واقتصادياً. كما أنّ الدولة تترنّح، بعدما باتت مؤسساتها مترهّلة، والأمن الاجتماعي مهتزّاً، والقطاعات الصحية والتربوية والمصرفية تعاني صعوبات جمّة.  

في المعطيات، يعي "الحزب" أنّه فقد قدسية مقاومته والتفاف اللبنانيين حولها وتعاطف الشارع العربي معها بعد استخدام سلاحه في الداخل اللبناني في 7 أيار 2008 وقتاله في سوريا منذ العام 2011 وهجومه غير المسبوق على دول الخليج العربي وأنظمتها. في العام 2006، أصبح السيد حسن نصرالله جمال عبد الناصر القرن الواحد والعشرين والزعيم العربي الأول. صوره ترفع من المحيط إلى الخليج. أمّا اليوم، فأمين عام حزب الله يدرك جيداً أنّه فقد التفاف اللبنانيين وتعاطف الشارع العربي إذا ما استثنينا العواصم التي تتباهى إيران بأنّها تسيطر عليها وهي، إلى بيروت، دمشق وبغداد وصنعاء.  

أمّا في الحسابات، فإسرائيل تهدّد هذه المرة بضرب مؤسسات الدولة اللبنانية كون "حزب الله" أضحى شريكاً أساسياً في السلطة الحاكمة، وكون الدولة لا تردع ممارساته. لذا لن تحيّدها نسبياً كما في العام 2006. كما يدرك "الحزب" أنّ الدول الخليجية التي أسهمت في إعمار لبنان بعد "حرب تموز" لن تضع حجراً فيه هذه المرة. في حسابات الميدان، يجاهر "الحزب" أنّ هذه الحرب لا تهدف إلى إسقاط إسرائيل رغم تغنّيه أنّها "أوهن من بيت العنكبوت" بل إلى تسجيل النقاط. علماً أنّ نصرالله قالها جهاراً: "اليوم جبهتنا وبقية الجبهات حاضرة بقوّة على طاولة التفاوض الذي يراد من خلاله الوصول إلى نتيجة معينة في هذه المعركة في هذه الحرب". فكلّ هذه الحرب لحجز كرسي على طاولة التفاوض!

في "حرب تموز"، قال السيد نصر الله "لو كان يعلم". أمّا اليوم فهو يعلم. توسّع الحرب سيكبّد لبنان خسائر بشرية ومادية ستفوق بأضعاف الفاتورة التي سدّدها في العام 2006. على الصليب، قال السيد المسيح "إغفر لهم يا أبتاه لأنّهم لا يدرون ماذا يفعلون". أمّا اليوم فهل يمكن لبنان المشلّع على صليب الحروب والأزمات أن يغفر لمن يدرون ماذا يفعلون؟!