التطورات الميدانية والتهديدات الإسرائيلية بتوسعة الجبهة ضد حزب الله لتصل إلى حرب شاملة ضد لبنان، أرخت بظلالها على الاستحقاق الرئاسي اللبناني لتعود به إلى دائرة الجمود والتعقيد. فالمجموعة الخماسية العربية الدولية "شمّعت الخيط" وانسحبت من الميدان لتبقي على حضور رمزي لها بتصريح من هنا و"تسريبة" من هناك تؤكّد فيها استمرار "مساعيها الحميدة". في حين أنّ الواقع يدل إلى أنّ التباعد في المواقف أو وجهات النظر بين الفرقاء اللبنانيين لا يزال مستمراً على غاربه ولم يبق في الساحة إلّا مبادرة رئيس مجلس النواب نبيه بري الحوارية أو التشاورية، ولكنّها هي الأخرى ما زال يؤيّدها فريق ويعارضها آخر، ليتكرّس في أذهان الجميع عن قصد أو غير قصد أنّ هذا الاستحقاق الدستوري قد ربط مصيره بمصير الحرب في غزة وعلى الجبهة الجنوبية اللبنانية.

حتّى أنّ أمين سر دولة الفاتيكان الكاردينال بيترو بارولين لمس خلال زيارته الأخيرة في شقّيْها الراعوي والسياسي الرئاسي، أنّ جميع الفرقاء يتحمّلون مسؤولية التعطيل الرئاسي وليس الفريق المسيحي وحده، ولكنّه وعد بقيام الفاتيكان بمسعى للمساعدة على إنجاز هذه الخطوة الدستورية.

أمّا الموفد الفرنسي "الرئاسي والخماسي" فهو الآخر "شمّع الخيط"، بعدما سمع جان ايف لودريان من محدثيه خلال زيارته الأخيرة لبيروت ما يعوق إنجاز انتخاب رئيس للجمهورية. فاقترح أن تعقد لقاءات تشاور ثنائية أو ثلاثية بين الفرقاء المعنيين في حضوره على أن تتوّج في النهاية بجلسة تشاورية واحدة تضم الجميع ثم يذهبون بعدها إلى جلسة انتخابية مفتوحة على دورات اقتراعية متتالية. ولكن اقتراحه لقي قبولاً لدى البعض ورفضاً لدى البعض الآخر، مع العلم أنّه كان يحمل فكرة دعوة الفرقاء إلى طاولة تشاور في باريس، إلّا أنّه لم يطرحها لأنّه سمع ما لم يشجعه على ذلك، وكان أن ذهب في نهاية جولته إلى رئيس مجلس النواب نبيه بري ليعبّر له عن دعم فرنسي وخماسي لمبادرته الحوارية "لأنّها المدخل الوحيد إلى إنجاز الاستحقاق الرئاسي". لكن برّي وجد في هذا الموقف إعلاناً فرنسياً وخماسياً "ناعماً" لنهاية المهمّة الخماسية، فضلاً عن أنّه وجد أنّ كلام لودريان يفتقر إلى الجدّية في شأن دعم مبادرته، فكأنّ الأخير جاء مستسلماً ورامياً مصير الاستحقاق بين يدي رئيس المجلس، لأنّه سمع من غالبية الذين التقاهم مواقف متناقضة حول الحوار من عدمه، فلمس من فريق المعارضة (والتيار الوطني الحر ليس من ضمنه) رفض المشاركة في الحوار أو التشاور الذي يدعو إليه بري ويترأسه. في حين وجد من حزب الله وحلفائه استعداداً للمشاركة في أيّ حوار أو تشاور، لكن بشرط أن ينعقد في مجلس النواب وليس في أيّ مكان آخر، وأن يدعو إليه بري ويترأسه كونه رئيس السلطة التشريعية في البلاد، وهي المكان الطبيعي لأيّ حوار بين اللبنانيين. وبهذا الموقف أقفل حزب الله الباب أمام الفكرة التي كان يحملها لودريان، وهي عقد الحوار في باريس برعاية الإدارة الفرنسية. وفي أيّ حال، فإنّ غالبية الأوساط السياسية المتابعة ترى أنّ ما يعوق الحوار وإنجاز الاستحقاق الرئاسي هو موقفا "التيار الوطني الحر" و"القوات اللبنانية" أولاً لعدم توافقهما على مرشّح جدّي حتّى الآن، وثانياً لعدم اتخاذهما أيّ خطوات عمليّة لملاقاة الفرقاء الآخرين إلى مساحة مشتركة، أو أن يميل أحدهما إلى فريق بعينه حتى يمكّنه من النفاذ بمرشحه أو الاتفاق معه على دعم مرشح وخوض الانتخابات بالتنافس الديمقراطي .

الموقف بدأ يزداد تعقيداً لرفض التيار تغيير موقفه بما يرضي حلفاءه...

في هذا السياق، وفيما تمضي "القوات" في معارضتها ترشيح رئيس تيار "المردة" سليمان فرنجية، وفي غياب أيّ توافق بينها وبين أيّ فريق على مرشّح آخر، فإنّ "التيار الوطني الحر" كان ولا يزال على معارضته ترشيح فرنجية الذي يدعمه الثنائي الشيعي وحلفاؤه ويتمسّكون به خياراً رئاسياً مناسباً للمرحلة بكلّ أبعادها الداخلية والخارجية، ويصرّ "التيار" على وجوب الذهاب إلى "خيار ثالث" ، وهذا ما يطمح للوصول إليه من خلال تأييده الحوار الذي يدعو إليه بري، وليس أيّ شيء آخر. فالمهم عنده هو الخلاص من ترشيح فرنجية لاعتبارات كثيرة لديه يطغى عليها الطابع الشخصي أكثر من الطابع السياسي، بحسب الأوساط نفسها.

على أنّ كلّ الاتصالات التي جرت بين الثنائي الشيعي وحلفائه وقيادة "التيار الوطني الحر" للتوصّل إلى توافق على دعم ترشيح فرنجية لم تحقّق أيّ تقدّم، بل إنّ الموقف بدأ يزداد تعقيداً لرفض التيار تغيير موقفه بما يرضي حلفاءه الذين يجدون في وصول فرنجية "ما يناسب مصالح البلاد ومصالحهم السياسية". ويبدو، حسب المعلومات، إنّ التواصل الأخير بين الجانبين في الآونة الأخيرة انتهى إلى أنّ حلفاء التيار وضعوه أمام مسؤولياته لكي يختار بين أحد أمرين: إمّا الالتحاق بالثنائي وحلفائه والعمل على انتخاب فرنجية رئيساً للجمهورية، وإمّا الالتحاق بالفريق الآخر ليذهب الجميع إلى خوض الانتخابات بمنافسة ديمقراطية بين مرشحين أو أكثر وليفز عندئذ المرشح الذي ينال تأييد الأكثرية النيابية موصوفة أو مطلقة.

بيد أنّ المشهد السياسي يدلّ إلى أنّ أحداً من الفرقاء لم يعد مستعجلاً إنجاز الاستحقاق الرئاسي، لأنّ الجميع بدأوا يراهنون على ما بعد الحرب في غزّة والجنوب، وحينذاك يبني كلّ منهم على الشيء مقتضاه.