لطالما اختلف البشر على مفهوم العمل السياسي وكيفية مقاربته. ثمّة من يقول إنّ السياسة هي لخدمة المصلحة العامّة والوصول إلى السلطة هو وسيلة في سبيل تحقيق ذلك، ومن يقول إنّ هذا الوصول هو الغاية بذاته والمصلحة العامّة هي غلاف تجميلي لذلك. هذا الاختلاف تُرجم ليس فقط عبر التيارات الفكرية في علم السياسة، بل كذلك عبر الممارسات التفصيلية للساسة. بعضهم يؤمن بالتكامل بين "البرغماتية" و"المبدئية" مع أرجحية للأخيرة، فيما البعض الآخر تحت شعار "السياسية فنّ الممكن" يُطيح "المبدئية" تحت ستار "البرغماتية". من هذا المنطلق، يمكن فهم هامش المناورات السياسية، إذ بعضهم لا يعرف أيّ خطوط حمر، ولا يتوقّف عند الأضرار الجوهرية التي قد تنجم عن مناوراته ولا يأبه إذا كانت هذه المناورات مكشوفة.

في 9/6/2024 اختار رئيس "التيار الوطني الحرّ" النائب جبران باسيل أن يبدأ من بكركي تحرّكاَ سياسياً جديداً، من حيث التوقيت في سبيل إنجاز الانتخابات الرئاسية، لكنّه لا يحمل أيّ جديد لا بل أقلّ شأناً حتّى من "ورقة الأولويات الرئاسية" التي أطلقها في 6/10/2022 وجال بها على الفرقاء السياسيين، ولكن من دون جدوى. باسيل لم ينف ذلك إذ قال في مؤتمر صحافي في 13/6/2024 "لا نحمل مبادرة جديدة إنّما مجموعة أفكار وخيارات"، لكنّه ادّعى أنّه "قرّر التحرك بالتكامل والتنسيق مع كتلتي الاعتدال الوطني واللقاء الديمقراطي"، في وقت كان "الاعتدال" يعلن عن تجميد حركته إفساحاً في المجال أمام حركة "اللقاء الديمقراطي".

 يلوّح باسيل بإمكان انتخاب سمير جعجع من أجل تحسين شروط تفاوضه مع "الثنائي"

الأهمّ أنّ كلام باسيل في هذا المؤتمر عن زيارة عين التينة أظهر أنّ حركته بعيداً عن التفاصيل التقنية ليست سوى التبرّع بغطاء مسيحي لمبادرة الرئيس نبيه بري، إذ أعلن أنّ:

* "الحوار والتشاور ضروريان للاتفاق على رئيس توافقي".

* "اتفقنا مع الرئيس بري على أنّ الأولوية هي للتوافق على رئيس وليس للتنافس (...) اتّفقنا أنّ هذا المسار (تشاور فتوافق وإلا فانتخاب) سيؤدّي حكماً إلى انتخاب رئيس".

* "من الطبيعي عندئذ أن تكون الدعوة موجهة من الأمانة العامة إلى مجلس النواب".

* "بمجرد حضور رئيس المجلس، يترأس حكماً جلسة افتتاحية يعرض فيها الاتفاق".

عدا "الغزل" مع بري ومبادرته، أمران لافتان بالتزامن مع تحرّك باسيل:

* البيان الصادر عن تكتّل "لبنان القوي" عقب اجتماعه الدوري برئاسة باسيل في 11/6/2024، والذي استحضر فيه انتخاب الرئيس مباشرة من الشعب عبر التذكّير بأنّ "التيار" كان قد تقدّم باقتراح بتعديل للدستور قبل أكثر من 8 سنوات يقضي بانتخاب للرئيس مباشرةً من الشعب على دورتين. ولكن لم يتمّ السير بهذا الاقتراح. فجدّد طرحه انتخاب رئيس الجمهورية مباشرةً من الشعب على دورتين على نحو يؤمّن البُعدين الميثاقي المسيحي والوطني. الطرح يعني عملياً انتخاب المسيحيين في الدورة الأولى مرشحين اثنين يتنافسان في الدورة الثانية على أصوات جميع اللبنانيين.

* ما كشفه ممثّل "القوات اللبنانية" في اجتماع قوى المعارضة مع باسيل في الصيفي النائب غسان حاصباني رداً على سؤال خلال استضافته عبر "الجديد" في 16/6/2024 عن تلويح باسيل بانتخاب د. سمير جعجع رئيساً للجمهورية من باب المناورة من أجل أن يحسّن شروط تفاوضه مع "الثنائي الشيعي" إذ أشار خلال اجتماعه مع المعارضة إلى أنّه قد يُقدم على ذلك. وقال للحضور: "انتبهوا شو بتحكوا لأن يمكن أعملها".

بناء على ما تقدم، يُظهر باسيل أن لا حدود لمناوراته فهو:

أ‌- مستعدّ للتعاون مع حليفه اللدود و"البلطجي" (وفق تعبيره) الرئيس بري. في هذا الإطار، يُحكى في الكواليس عن دور مشترك لهما في طرح اسمَي المدير العام للأمن العام بالإنابة اللواء الياس البيسري والعميد جورج خوري. لكن باسيل يعلم جيداً أنّ القرار النهائي في حارة حريك لا في عين التينة التي تدرك بدورها الهامش المتاح لها للعب في الوقت الضائع. فحركة "الثنائي الشيعي" كحركة الديبلوماسية الأميركية والفرنسية في لبنان، بحيث أنّه يُترك لباريس هامش كبير للحركة لكن عند ساعة الحسم فالقرار لواشنطن.

ب‌- في المقابل، يلوّح باسيل بإمكان انتخاب سمير جعجع من أجل تحسين شروط تفاوضه مع "الثنائي"، وهو يدرك أن لا "الثنائي" ولا جعجع والمعارضة ولا هو نفسه يأخذ هذا الكلام على محمل الجد.

إلّا أنّ الأخطر هو تجديد طرح باسيل انتخاب الرئيس من الشعب الذي هو عملياً ضرب لـ"وقف العدّ" وضرب للشراكة الميثاقية ومحاكاة للمطلب المستدام لـ"الثنائي الشيعي" أكان عبر طرح لبنان دائرة واحدة - وإن مع النسبية – أم انتخاب رئيس من الشعب. فإذا افترضنا أنّ المرشحين اللذين فازا في الدورة الأولى هما جبران باسيل بأكثرية ساحقة من أصوات المسيحيين والمرشح ميلاد بو ملهب، وتم اختيار الأخير في الدورة الثانية، فهل يكون باسيل قد أمّن بهذا الطرح حسن التمثيل المسيحي؟ "بهلوانيات" سياسية لغايات شخصية كهذه لا تجدي نفعاً لصاحبها، لا بل تمهّد للتفريط في ركائز أساسية للشراكة الميثاقية فيما الخطر يتصاعد ليس على لبنان الدولة فحسب بل كذلك على لبنان الكيان والميثاق والهوية.