راكم الحراك القطري اللافت حيال لبنان في هذه المرحلة تساؤلات كثيرة في الأوساط السياسية اللبنانية حول أبعاده وخلفياته والأهداف التي لن يطول بها الوقت حتى تنكشف تباعاً، خصوصاً أنّ وتيرته التصاعدية ارتفعت قبيل زيارة الموفد الرئاسي الفرنسي والخماسي جان ايف لودريان الأخيرة لبيروت، ثم ازدادت بعدها ارتفاعاً مع تزايد الكلام عن "انتهاء" صلاحية عمل المجموعة الخماسية العربية ـ الدولية في شأن لبنان.

ومن هذه التساؤلات: هل بادرت الدوحة من تلقائها إلى الحراك من دون تنسيق مسبق مع أحد من نظرائها في المجموعة الخماسية أو سواها؟ وهل انتهى دور المجموعة الخماسية العربية والدولية فعلاً حتى تبادر قطر إلى التقريب بين الأضداد اللبنانية حول الاستحقاق الرئاسي وسواه، علّها تنجح منفردة حيث فشلت الخماسية مجتمعة؟ وهل التقطت الدوحة إشارة أميركية ما تدعوها إلى أداء هذا الدور الوسيط؟ وهل يمكن المملكة العربية السعودية ذات العلاقات التاريخية المتجذرة مع لبنان منذ ما قبل استقلاله أن تقبل بتقدّم الدور القطري على دورها فيه بهذه السهولة وهذه البساطة؟ أو هل المملكة السعودية راضية عن هذا الدور القطري وتشجع الدوحة عليه؟ وما الذي يمكن قطر أن تقدّمه لحلّ الأزمة اللبنانية وعجز سواها عن تقديمه؟

اهتمام استثنائي

كلّ هذه الأسئلة لا بدّ من أن تتوافر الأجوبة عنها في قابل الأيام والأسابيع، مع تبلور ما سيؤدّي إليه الحراك القطري من نتائج، وما يمكن أن يحقّقه من أهداف. ولكن إلى ذلك الحين، يؤكّد بعض زوار الدوحة هذه الأيام في معرض إضاءتهم على الحراك القطري القديم ـ الجديد في شأن لبنان، أنّ لدى القيادة القطرية "اهتماماً استثنائياً" بالوضع اللبناني منذ فجر الاستحقاق الرئاسي إلى الآن، وهي تعتبر نفسها، على ما ينقله زوارها عنها، أنّها قادرة على المساعدة سواء في مجال استيعاب نتائج الحرب الدائرة حالياً في الجنوب اللبناني، أو على المستوى الداخلي لجهة الاستحقاق الرئاسي ومعالجة الأزمة السياسية والاقتصادية التي يعيشها لبنان. ويؤكد هؤلاء الزوار أن "ليس لدى المسؤولين القطريين خطّة معيّنة أو مبادرة محدّدة بعد، ولكنهم يرغبون في لعب دور توفيقي بين الفرقاء اللبنانيين إذا تسنّى لهم ذلك من أجل تمكينهم من إنجاز الاستحقاق الرئاسي، وبناء سلطة جديدة طال انتظارها منذ انتخاب المجلس النيابي الحالي عام 2022.

ويعتبر زوار الدوحة "أنّ المجموعة الخماسية العربية الدولية باتت بلا أهمّية كونها لم تتمكّن من تحقيق أيّ إنجاز يذكر"، ويضيفون: "الجانب السعودي كان في أساس الخماسية وكان هناك تعويل على دوره لانتاج حلّ للأزمة اللبنانية، ولكن مع الوقت بدا أنّ المملكة العربية السعودية غير مهتمة أو أنّها في ضوء ما يجري في المنطقة لم تر أنّ أوان الحلّ اللبناني قد حان، ولكن المسألة تبقى أولاً وأخيراً عند الولايات المتحدة الأميركية، وبالتالي فإنّ قطر لا يمكنها القيام بأيّ حراك من دون إشارة أميركية".

ويكشف زوار الدوحة أنّه على عكس ما يحكى ويشاع، فإنّ القيادة القطرية "لا تسمّي ولا ترشّح أيّ شخصية، ولا تتمسّك بأيّ مرشّح من المرشّحين المطروحين لرئاسة الجمهورية، وإنّها تركّز تحديداً على تمكين الفرقاء اللبنانيين، إذا استطاعت، من التوافق على ما يرتأونه من خيار لإنجاز الاستحقاق الرئاسي".

وفي هذا السياق، يؤكّد أحد زوار قطر البارزين أن "ليس متوقّعاً حصول أيّ شيء ملموس في المدى القريب على مستوى انتخاب رئيس جمهورية جديد في ضوء ما يحكى حالياً عن مهل محدّدة لهذه الغاية"، ويقول: "إذا تمّ التوصل إلى اتفاق على وقف لإطلاق النار في غزة، فعندئذ سيتم الدفع فوراً إلى وضع آليات عمل في شأن التطوّرات في الجنوب، وكذلك في شأن الاستحقاق الرئاسي وسواه من القضايا الداخلية".

تعويل قطري

في هذه الأجواء، جاء "الحراك الرئاسي" لكتلة "اللقاء الديموقراطي" النيابية في اتجاه القيادات والكتل، بدفع من الرئيس السابق للحزب التقدمي الاشتراكي وليد جنبلاط، ليبدو أول وهلة لكثيرين أنّه محاولة لإعادة لبننة الاستحقاق الرئاسي بعد "أفول" مهمة المجموعة الخماسية، التي ختمتها زيارة لودريان الأخيرة بـ"الشمع الأحمر" على حدّ تعبير أحد النواب الذين التقوه. ولا ننسى أنّ جنبلاط أقدم على هذه الخطوة بعد زيارتيه الأخيرتين لباريس حيث التقى الرئيس الفرنسي ايمانويل ماكرون، والدوحة حيث التقى أمير قطر الشيخ تميم بن حمد آل ثاني، الذي كان في طريق عودته من طهران عندما أنزله في اللحظة الأخيرة من طائرته قبيل إقلاعها من الدوحة في اتجاه بيروت، ليلتقيه فور وصوله من العاصمة الإيرانية حيث كان يعزّي بالرئيس الإيراني إبراهيم رئيسي.

ويبدو أنّ الشيخ تميم "حبك" شيئاً في شأن الاستحقاق الرئاسي بين لقائه مع رئيس مجلس النواب نبيه بري في طهران على هامش تعزيتهما برئيسي، ولقائه في الدوحة مع جنبلاط الذي وصف البعض زيارته لقطر بأنّها "كانت على جانب كبير من الأهمية"، خصوصاً إذا علم الجميع أنّ مؤتمر الدوحة الشهير عام 2008 ما كان لينعقد يومذاك لو لم يحضره بري وجنبلاط. ولذلك فإنّ قطر تعوّل على ما يبدو على الرجلين لتمكينها من خوض غمار مبادرة جديدة أو "دوحة 2" لإنهاء الاستعصاء وحلّ الأزمة السياسية والدستورية اللبنانية.

على أنّ التواصل، المعلن وغير المعلن، بين الدوحة وكلّ من بري وجنبلاط، قائم منذ ما قبل نشوء المجموعة الخماسية، فالنائب علي حسن خليل المعاون السياسي لبري زار الدوحة مرتين حتّى الآن بناء على دعوتها، وزيارته الثانية لها كانت الأسبوع الماضي، واللافت أنّها جاءت بعد لقاء الشيخ تميم مع بري في طهران وغداة استقباله جنبلاط، وفي الوقت الذي كانت الدوحة تستقبل وفد "القوات اللبنانية" الذي تصدّره النائب ملحم الرياشي. ويقال أنّ رئيس حزب "القوات اللبنانية" سمير جعجع آثر عدم تلبية الدعوة القطرية لزيارة الدوحة مكتفياً بإرسال وفد يمثّله وذلك على خلفية مشهد استقبال أمير قطر لجنبلاط من جهة، ولأنّه قرر التريث بالإقدام شخصياً على خطوة من هذا النوع قبل الوقوف على حقيقة الموقفين السعودي والأميركي من الحراك القطري من جهة ثانية.

في حين لم يعرف بعد هل تلقّى رئيس "التيار الوطني الحر" النائب جبران باسيل دعوة إلى زيارة الدوحة أم لا، فإنّ الرجل سيتلقى حتماً دعوة من هذا النوع وسيلبّيها، لأنّ علاقته بالقيادة القطرية "جيدة جداً" كما هو معلوم، ولكنّه قد يحدّد هو اللحظة السياسية المناسبة لهذه الزيارة.

وتفيد المعلومات بأنّ النقاش الجاري بين بري والقيادة القطرية مباشرة أو من خلال معاونه السياسي يتناول ما يدور بين الدوحة وزوارها اللبنانيين المعنيين بالاستحقاق الرئاسي ويقيّمه، خصوصاً أنّ بري أبلغ إلى القطريين والعواصم المهتمة بالشأن اللبناني، الخماسية منها وغيرها، أنّه لا يرى غضاضة في أن ترعى دولة عربية عموماً وخليجية خصوصاً الحل المنشود للأزمة اللبنانية، وبالتالي فإنّ الحراك القطري قد ينتهي إلى أن تتولى الدوحة هذه الرعاية، خصوصاً إذا شجّعتها واشنطن والرياض على هذا الأمر.

وفيما لم يعرف هل تدعو الدوحة رئيس كتلة نواب حزب الله النائب محمد رعد أو من يمثّله لزيارتها، فإنّ رعد كان صريحاً في الموقف الذي أبلغه إلى لودريان، إذ أكّد له أنّ "الحزب" وحلفاءه باتوا متمسّكين أكثر من أيّ وقت مضى بدعم ترشيح رئيس تيار "المردة" سليمان فرنجية في ضوء الحرب الإسرائيلية على غزة ولبنان وما يجري في المنطقة، وأنّه إذا كان بعض القوى يعتبر أنّ ترشيحه يحظى بتأييد "أقلّيّة مسيحية" فإنّ ذلك يشكّل سبباً جوهرياً وأساسياً للأصرار على خوض الحوار في شأن الاستحقاق الرئاسي، لأنّه ثبت من خلال التجربة أنّ هذا الحوار ضروري وهو يحصل غالباً وبأشكال مختلفة قبل كلّ استحقاق، وبات عرفاً، والعرف في لبنان أقوى من النصّ، خصوصاً في حالة مواجهة الأزمات التي يمر بها، وبين مرحلة وأخرى.

يؤكّد المطّلعون على الموقف الأميركي أن لا حلّ سيحصل للأزمة اللبنانية خارج لبنان

بين واشنطن والدوحة

لكن في مقابل هذه الصورة الوردية التي ترسم للدور القطري المتجدّد في لبنان، يقول مطّلعون على الموقف الأميركي إنّه لن يكون هناك "دوحة قطرية" لحلّ لبناني وإنّما هناك "دوحة الحص" لهذا الحلّ، وذلك في إشارة إلى بلدة الدوحة الساحلية جنوب بيروت التي سمّيت "دوحة الحص" تيمّناً باسم ساكنها رئيس الحكومة السابق سليم الحص الذي يملك فيلا فيها. ويضيف هؤلاء أنّ العلاقة بين واشنطن والدوحة في هذه الأيام ليست على سويّة، أو على ما يرام في ضوء الحراك الديبلوماسي الناشط لوقف النار في غزة وفق آلية اقترحتها واشنطن.

فإدارة الرئيس جو بايدن عاتبة بشدّة على القيادة القطرية لاعتقادها أنّ الأخيرة قادرة على تطويع موقف قيادة حركة "حماس" وإقناعها بقبول الاقتراح الأميركي لوقف الحرب في غزة، ولكنّها تحجم عن أداء هذا الدور، وهذا ما كاد يجعل الدوحة "عاصمة حماس" حسب التوصيف الأميركي. في وقت تتهم واشنطن الدوحة بالوقوف خلف الحراك الطالبي في الجامعات الأميركية تضامناً مع الشعب الفلسطيني في غزة والضفة الغربية، وبأنّها تقدم الدعم المالي واللوجستي لهذا الحراك الذي يهدّد مصالح بايدن الانتخابية الواقف على أبواب الانتخابات طامحاً إلى الفوز بولاية جديدة على منافسه دونالد ترامب.

ويؤكّد المطّلعون على الموقف الأميركي أن لا حلّ سيحصل للأزمة اللبنانية خارج لبنان، ويعتبرون أنّ قطر محشورة أميركياً، ولن يكون في مقدورها التفرّد برعاية حلّ لهذه الازمة. ولذلك تحاول بشتى الوسائل إعادة تطبيع العلاقات بينها وبين واشنطن وإبداء حسن نية تجاهها عبر اتخاذ بعض الخطوات الإيجابية، ومنها التوجه إلى شراء طائرات "بوينغ" جديدة تحت عنوان "تعزيز أسطول الطيران المدني القطري". كما أنّ واشنطن مستاءة من طريقة الدوحة ودورها ازاء المقترح الأميركي الراهن لوقف النار في غزة.

على أنّه لا يمكن تفسير تصاعد الحراك القطري بهذا المستوى على خط الأزمة اللبنانية إلّا بأنّه تعبير عن انتهاء مهمة المجموعة الخماسية العربية الدولية وخدماتها اللبنانية من دون إعلان مسبق.

لكن في المقابل يدحض العالمون بطبيعة العلاقة الأميركية ـ القطرية أن تكون هذه العلاقة قد وصلت إلى هذا الدرك، لأنّ حراك الطلاب في الجامعات الاميركية لا يمكن أن يكون بتدبير قطر التي تحتض قاعدة "العديد" الأميركية وهي أكبر قاعدة عسكرية أميركية في الشرق الأوسط.