تحت ظلال أشجار الصنوبر والزيتون وسط منطقة الشوف، انطلقت سهرة غنائية تراثيّة أحياها الموسيقي اللبناني شربل روحانا في مشروع بكرزاي. انطلقت السهرة مع مغيب الشمس في أجواء ساحرة بمشروع جمع بين الرقي والبساطة، ليصبح عنواناً للجمال والفن. توزّع الحاضرون على الكراسي البيض، وفضّل بعضهم الجلوس على الجلول الصخرية. ملأوا بطونهم بساندويشات الشاورما بلحم أو الدجاج أو الفلافل، كلّ حسب مزاجه، ولم يمتنعوا عن اصطحاب كؤوس النبيذ الخاصة بهم، إلى مدرج الحفل، ليشربوا نخب الليل والسهر، ويتركوا موسيقى روحانا تسكّر أرواحهم بألحانها وكلماتها، فيأخذهم هذا الخليط في رحلة إلى عالم بعيد من الخيال، يساعدهم على الهروب من واقع قاتل، ولو لبضع ساعات، مسترجعين كلّ ما هو جميل، مع أصداء الصفيق الذي كان يعلو بعد كلّ أغنية معروفة يؤديها روحانا.  

"الموسيقى التي أكتبها تنبع من حاجة شخصية للتعبير عن الذات"، يقول الموسيقي شربل روحانا لـ"الصفا نيوز"، "وأتمنى دائماً أن أشبه الموسيقى التي أكتبها، لأنني أضع فيها كلّ طاقتي وإحساسي كي تصل للناس، حتى للذين لم يدرسوا الموسيقى. فعبر الموسيقى أستطيع أن أفتح خطّاً سريعاً بيني وبين الجمهور. وأتمنّى من خلال موسيقاي استهداف جميع الأعمار، وخصوصاً جيل الشباب، وهو ما ألاحظه خلال تجربتي مع الأشخاص الذين يشاهدون عروضي، إذ ليس هنالك موسيقى قديمة أو شبابيّة، بل موسيقى جميلة، بغضّ النظر عن القرن الذي تعود إليه، فمعزوفة "البنت الشلبية" التي قدمناها في العرض، في بكرزاي، لن تموت ولو بعد عدّة سنوات. وما يعزز جمالية المقطوعة هو التوزيع الموسيقي وأداء الموسيقيين". 

وأضاف روحانا "وسط الضجيج الذي هو مزيج من كلّ الأنواع، الموسيقي، الفني، اليومي، السياسي، الاجتماعي، أصبحنا بحاجة أكثر من أيّ وقت مضى للهدوء والعودة إلى لحظة صفاء مع الذات. وطبعاً الموسيقى تلعب دوراً كبيراً في ذلك، لأنّها، وإن لم تكن كلاسيكية أو فولكلورية، تساعدنا على الارتفاع بأحاسيسنا للتخفيف من وطأة الضجيج الموجود في داخلنا، وهو ليس سوى اشتعال دائم للغرائز الحيوانية فينا". 

وعن مسيرته المهنية، قال "ولدت في عائلة مؤلفة من 11 فتاة وصبياً، وأنا العاشر، وكان أغلب إخوتي يهتمون اهتماماً كبيراً بالفنون على مختلف أنواعها، من شعر وأدب وموسيقى، كما أنّ ابن خالتي هو مارسيل خليفة، الذي لعب وجوده في حياتي دوراً كبيراً في توجهي إلى الموسيقى. خصوصاً قبل الحرب، إذ كان قد أسس كورال نادي عمشيت، وكنت أشارك كمغنٍّ فيه. وهنا ظهرت موهبتي واكتشفت حبّي للفن، ولو أكمل مارسيل مشروع الكورال لأثّر بشكل كبير على مسيرتي، إلاّ أنّ الحرب ضربتنا، وهذا ما جعلني أركّز على كيفيّة تأمين لقمة العيش، فعشت في تحدّ بين الطموح وتحسين الوضع المادي. إلّا أنّ إصراري على تحقيق شغفي، جعلني أدرس العزف على البيانو أولاً، والعود ثانياً، ثمّ درست العلوم الموسيقية في جامعة الروح القدس الكسليك، ثمّ درّست في الجامعة نفسها، لتبدأ حياتي المهنية عبر إحياء الحفلات، وتلحين الأغاني، وكتابة الموسيقى مع عبد الحليم كركلا، وشاركت مع مارسيل خليفة في عدّة أعمال موسيقيّة وغنائيّة، أهمّها "جدل" سنة 1995. ولحّنت الكثير من الأغاني لأميمة الخليل، وريما خشيش وجمانة مدوّر ونقولا الأسطا وعبير نعمة وماجدة الرومي".

وليس لروحانا أغنية مفضّلة إذ يصف حبّه لأغانيه كحبّ الأمّ لأولادها، لأنّها لا يمكن أن تفضّل ولداً على الآخر، فلكلّ ولد ميزة، وكذلك أغنياته، ويختلف وجود كلّ أغنية بحسب برنامج الحفل. 

وعن علاقته بمشروع بكرزاي، قال "عندما تواصل معي المعنيون لإحياء حفلة في بكرزاي، خطر ببالي أنّ الحفلة في قرية في الشوف، لأكتشف لاحقاً أنّه اسم لمشروع في الشوف. وهذا الاسم مرتبط بأشجار الصنوبر، التي تحيط بالمشروع الذي يشبه موسيقاي، وموسيقاي تشبهه. إذ ننطلق من الموسيقى التراثية، وفي الوقت نفسه نجدد في هذه الموسيقى، ماضين إلى أماكن أوسع تشبهنا أكثر. وإذا اختلفت قليلاً عن الجذور، فإن روح التراث لا يزال موجوداً". 

وعن احتمال تأثير الوضع الأمني في الجنوب والوضع الاقتصادي في كل يلبنان على حفلات صيف 2024، أجاب، "منذ سبعينيات القرن الماضي، نعيش في جوّ من عدم الاستقرار، سواء من الناحية الأمنية، أو السياسية، أو الاجتماعية، أو الاقتصادية، وعلى الرغم من ذلك، نجد أنّ الناس مستمرّون، ولو في نظام الفوضى الخاص بهم، بحسب أغنية زياد الرحباني "شي عجيب كيف ماشي، مخشخش من دون خشخاشي، شي أهبل شي غاشي". فالناس مستمرة، ومثلهم الموسيقى مستمرّة ولو أنّها تحتاج إلى أجواء مختلفة، ولكن ليس في اليد حيلة، فنحن تعوّدنا منذ الحرب الأهلية العيش بشكل متوازٍ مع الأحداث التي تحصل، لنبقى صامدين من الداخل والخارج. والنشاطات الفنية مستمرة، من مسرحيات، وحفلات غنائيّة ومهرجانات وغيرها. وعلى الرّغم من وجود هذه النشاطات، هناك بهجة ناقصة، كمن يلعب في الوقت الضائع. وكنّا قد تحدثنا عن حفلة في مهرجانات بعلبك، فاذا لم تلغَ المهرجانات نكمل الحفلة هناك، أو سننتقل بها إلى بيروت".

في سياق متصل، قال صاحب مشروع بكرزاي رمزي سلمان إنّ "المشروع تأسس سنة 2010 بصيغته الأولى، التي كانت تتضمّن الفخّار والأرض، والقهوة، ومنتوجات ريفيّة، ثمّ تطوّر بين الـ2015، والـ2017، ليصبح قرية بيئية، ECOVILLAGE، تتضمّن بيوت ضيافة، ومطعماً، وحمّاماً، ومنتجعاً صحياً، وحوض سباحة، ومعظم أرض المشروع هي أرض غابات وزيتون، وتوفّر عدّة أنشطة منها الهايكينغ، لقرب المشروع من حرش بعقلين. ومنذ العام 2024، وسّعنا أنشطتنا لتشمل الأنشطة الترفيهية والثقافية، ومن ضمنها كان الحفل الغنائي الذي أحياه شربل روحانا. وخلال الصيف سيشهد مشروع بكرزاي حفلات لكل من دانا حوراني، وميساء قرعة، وفرقة تاكسي 404". 


وعن الموسم السياحي هذا الصيف، قال "لا شكّ في أنّ السياحة تتأثّر بالوضع الأمني، ونحن ننتظر موسم الصيف، الذي ينطلق من نصف حزيران ويمتد إلى نصف أيلول، لاستضافة المغتربين، وتحريك عجلة النشاطات. نتخوّف من الوضع الأمني إذ من المحتمل أن يضرب الموسم، فتتكبد عندئذ جميع المؤسسات السياحيّة خسائر كبيرة". 

وعن سبب اختياره الاستثمار في لبنان على الرّغم من الظروف الراهنة، أجاب، "نحن نؤمن بلبنان، وليس لدينا خيار آخر. والتفاؤل واجب، لذلك لن نترك هذا البلد، وهو ما يدفعنا إلى العمل ومواجهة المصاعب. لسنا وحدنا، بل هناك الكثير من المستثمرين الذين لا يزالون يؤمنون بلبنان ويرفضون الاستسلام". 

قد يخون الكلام صاحبه، خصوصاً إذا كانت الرسالة رسالة حبّ وايمان تجمع المستثمر والفنان والجمهور "العيّيش"، فهؤلاء، إن اجتمعوا على شيء واحد فهو حبّ لبنان.