يكثر الحديث في بيروت عن قلق دولي على مستقبل لبنان في ضوء استمرار الفراغ الرئاسي، والحرب الدائرة في الجنوب من 8 أشهر بشكل تصاعدي وصلت شظاياها إلى منطقة البقاع في عمق الأراضي اللبنانية. تتحرّك الخماسية الدولية ضمن مثلّث وقف إطلاق النار جنوباً وانتخاب رئيس للبلاد وطاولة حوار أو تشاور. يحضر الموفد الرئاسي الفرنسي جان إيف لودريان ليعبّر عن قلقه في مشهد يذكّر بالقلق نفسه الذي كان يعبّر عنه الأمناء العامّون للأمم المتحدة على التوالي حيال ما يحصل في فلسطين، ولو من دون القدرة على الحؤول دون استمراره منذ العام 1948. ويزورنا آموس هوكستين حاملاً توجيهات الإدارة الأميركية ورؤيتها الخاصة إلى الحلّ. كما يحطّ في رحابنا الموفدون العرب من الدول الأعضاء في الخماسية إلى إيران وغيرها. ويغيب عن هؤلاء جميعاً أنّ الخطر الأكبر على لبنان هو النزوح السوري الذي تحوّل إلى مصدر تهديد وجودي، بعدما تخطت أعداد النازحين المليونين، أي ما يعادل أكثر من ثلث الشعب اللبناني.

قبل يومين، تعرّضت السفارة الأميركية في عوكر، شرق بيروت، لإطلاق نار تعددت الروايات في هذا الشأن بين ما قيل عن 3 مسلّحين، قتل الجيش أحدهم وأصيب آخر وفرّ ثالث.، وروايات تتحدث عن إصابة مطلق النار وأنه كان وحيداً. والأهمّ في ما تكشّفت عنه المعلومات هو أن مطلق النار سوري الجنسية، كان يحمل عتاداً عسكرياً يُظهر انتماءه إلى "داعش"، كما أفيد بأنّه مسجل لدى المفوضية العليا لشؤون اللاجئين التابعة إلى الأمم المتحدة بصفة "نازح". ولا بدّ هنا من الإشارة إلى أنّ السلطات اللبنانية لطالما أعلنت أن "المفوضية" لم تسلّم إليها الداتا الخاصة بالنازحين المسجلين في لبنان. ولا يمكن عدم التوقف عند الكتاب الأخير الذي وجهه ممثل مكتب المفوضية في لبنان إيفو فرايسن إلى وزير الداخلية بسام مولوي يطالبه فيه بوقف "الممارسات اللاإنسانية" في حق النازحين السوريين. ويتضمن الكتاب اعتراضاً على "التدابير التي اتخذتها الوزارة لجهة حجز الدراجات التي يقودها نازحون سوريون من دون أوراق ثبوتية".

إذاً، هي المفوضية التي رفضت "التقييد" على حركة النازحين، حتى على من لا يحمل أوراقاً ثبوتية منهم. كما اعترضت على حجز دراجاتهم النارية غير المسجلة، ورفضت تسليم المعلومات الخاصة بهم إلى السلطات اللبنانية، وها هو أحدهم (على الأقل واحد) ينفّذ هجوماً إرهابياً يستهدف السفارة الأميركية في لبنان. فمن يتحمّل مسؤولية هذا الهجوم ونتائجه؟

بعيداً عن الوقائع والمعطيات المتصلة بالتحقيقات في قضية استهداف السفارة في عوكر، تنشط مخيلات البعض في محاولات لاستحضار تواريخ سابقة حصلت فيها هجمات إرهابية خطفت الاهتمام من أحداث مهمة. ويلفت آخرون إلى المحاولات المستمرة لحجب الأنظار عمّا حصل ويحصل في غزة، وأخيراً في رفح، من مجازر يرتكبها الاحتلال الإسرائيلي في حقّ المدنيين الفلسطينيين من أطفال ونساء وكبار في السن. ويرجّح الميالون إلى وجهة النظر هذه أن موجة التضامن الغربية من أميركا إلى أوروبا مع الفلسطينيين، قد تكون الدافع إلى استحضار داعش وبعث الروح فيها، والإيحاء بوجود رابط بينها وبين غزة، وهذا ربما يدفع البعض إلى إعادة التفكير في تضامنه مع القضية الفلسطينية.

ولكن الأخطر في ما حصل في محيط السفارة الأميركية في عوكر، هو ارتدادات الهجوم، إذ ظهر النازحون السوريون، ولو عبر أحدهم، بصورة "الإرهابي الداعشي". ولم يكن اللبنانيون قد تخطّوا بعد جريمة قتل باسكال سليمان خلال محاولة سرقة سيارته على يد "عصابة سورية"، وما أعقب هذه الجريمة من ردود فعل مستنكرة شملت عدداً من النازحين السوريين في مناطق مختلفة، نجحت الأطراف اللبنانية المختلفة في لملمتها. رغم محاولات الترهيب والترغيب الغربية في موضوع النازحين السوريين، من وعود بهبات ومساعدات إلى تهديدات بالعلن وبالسر، يخشى معها الكثيرون ممن هم في السلطة في لبنان، على مستقبلهم السياسي ومصالحهم الخاصة وحساباتهم المالية في المصارف الخارجية.

ملف النزوح السوري ومآلاته يجب أن يكون أولوية الأولويات وأولى القضايا وخاتمتها

ولا بد من الإشارة في هذا المجال إلى أن النازحين السوريين ليسوا جميعاً على صورة "الداعشي" أو "السارق القاتل". ولكنّ هذه الصور هي التي تظهر بشكل جلي من جهة، ومن جهة ثانية تظهر صورة النازح الذي يستفيد من دعم المفوضية والمنظمات الدولية المالي ويتنقل بين لبنان وسوريا على نحو يخالف منطق النزوح، كما يمارس مهنة من هنا أو تجارة من هناك منافساً اليد العاملة اللبنانية.

قد يكون ما حصل في عوكر رسالة تتكامل مع ما أُثير عن ضبط شحنات للأسلحة في مناطق مختلفة من لبنان، وهدفها الإلماح إلى وجود فتيل قابل للإشعال في لحظة ما، بحسب التطورات الإقليمية، وهو عبارة عن مواجهة بين النازحين السوريين من جهة واللبنانيين الناقمين على إدارة ملف النزوح والدعم الذي يحصل عليه النازحون من جهة ثانية، فيما يدفع لبنان الثمن من واقعه المالي والاقتصادي والمعيشي والبيئي وهجرة الشباب على نحو يهدد الهوية والتركيبة اللبنانية ويؤشّر إلى مستقبل قاتم.

كلّ هذا يدفع إلى السؤال عن الجهة التي تسعى إلى افتعال صدام بين اللبنانيين والنازحين، أو التي تهيّئ الأجواء لمواجهة كهذه، والنتائج المرجوة من التلويح بها أو من حصولها.

مستقبل لبنان في خطر محدق. هوية لبنان مهددة بالضياع كما تركيبته الديموغرافية مهددة بالاختلال. ليست الحرب عند الحدود الجنوبية ولا شغور موقع الرئاسة ولا طبيعة الحوار المرتقب أو من يدعو إليه، ليست هذه كلها، على أهمّيتها، أولوية. ملف النزوح السوري ومآلاته يجب أن يكون أولوية الأولويات وأولى القضايا وخاتمتها، إنّه مصير شعب ووطن وأرض. فهل من يسمع!