لنسلّم جدلاً أنّ حماس تمثّل الشعب الفلسطيني في غزّة وأنها تريد تحقيق مصلحته ورفع الاحتلال والحصار والعدوان عنه. 

ولنسلّم جدلاً أيضاً أنّ الإعداد لهجوم حماس في السابع من تشرين الأول 2023 بدأ قبل سنتين وأنه كان منسّقا مع الحرس الثوري الإيراني وبعض أذرعه في المنطقة. 

ثمّ فلنسلّم جدلاً أن حزب الله الذي أكّد غير مرة أنه كان ذا دور فاعل في تسليح حماس وتدريب مقاتليها ونقل التكنولوجيا العسكرية الإيرانية إليها، مقتنع أنّ من واجبه الديني والشرعي إسناد غزة من جنوب لبنان، وأن إسرائيل لا تقهَر إلا بالقوة. 

للوصول إلى رفع الاحتلال استراتيجية لا يمكن أن تتحقق إلا مرحلة بعد مرحلة وبلوغ أهداف مرحلية.

من الأهداف المرحلية التي أعلنتها حماس إعادة وضع نفسها ووضع القضية الفلسطينية على الخريطة الدولية بعد تجاهل كامل من المجتمع الدولي، ووقف مسيرة التطبيع بين إسرائيل والمملكة العربية السعودية. 

جهود التطبيع بدأت في عهد الرئيس السابق دونالد ترامب من خلال ما سمّي بصفقة القرن التي شملت أربع دول عربية وإسرائيل والتي سعى الرئيس بايدن إلى استكمالها بتطبيع العلاقات بين المملكة العربية السعودية وإسرائيل. 

مصدر دبلوماسي سعودي أكّد أّنّ المملكة لم تكن مستعدّة للغوص في المفاوضات المتعلقة بالتطبيع قبل الحصول على تعهدات موثوق فيها بأن مبادرتها للسلام التي أقرّتها القمّة العربية في بيروت عام 2002 ستكون محور حديث التطبيع. 

يقول مستعرب أميركي متخصص في حزب الله والمنظمات الإسلامية إن تصرّف حماس يعكس استراتيجية تهدف إلى بدء مصالحة مع السلطة الفلسطينية – التي ترهّلت وتعاني من الفساد المستشري – والانسحاب من الإدارة المباشرة لغزة مع التخلي لمنظمة التحرير عن الدور الأساسي في إدارة القطاع. يتوازى مع هذا تراجع لحدة خطاب حماس بما يسهّل دخول أعضائها المعتدلين وشخصيات قريبة منها في الهيكلية القيادية لمنظمة التحرير بعد إصلاحها وإعادة تنظيمها. 

ويشرح هذا المصدر أنّ الغاية من تلك الاستراتيجية إعادة تشكيل منظمة التحرير على هيئة حماس، واستنساخ النموذج الذي يطبّقه حزب الله في لبنان من خلال مشاركته في الحكومة وإشصال أعضاء منه إلى مجلس النواب، وفرضه ثلاثية الشعب والجيش والمقاومة. أضاف هذا المصدر أن هذا النموذج هو الذي تريده حماس، أي أن تكون سياستها موجودة في صلب القيادة الفلسطينية مع الاحتفاظ باستقلالية قرارها وبسلاحها، بدون أن يترتب على تصرفها نتائج مباشرة عليها كما لو كانت تتفرّد بإدارة غزة. 

وفي رأي هذا الخبير الأميركي أن من خطّط لهجوم السابع من تشرين الأول كان يؤمن بمبدأ وحدة الساحات الذي رفعه الحرس الثوري الإيراني ويضع نصب عينيه مجموعة من الأهداف أوّلها خلقُ صدمة في إسرائيل وزرع شكّ شعبها في قدرة جيشها وأجهزة استخباراتها، واستفزاز إسرائيل لاستدراجها إلى رد عنيف تثير نتائجه الرأي العام العالمي ضدها، وجرّ سائر الأطراف في الساحات الموحّدة إلى مهاجمة إسرائيل دفعة واحدة. 

نجح المخططون في زرع هذا الشك لدى الشعب الإسرائيلي وفي دفع إسرائيل إلى اعتماد أعلى درجات العنف في ردها الانتقامي الذي هجّر معظم سكان غزّة ودمّر نصف المباني في القطاع وقتل وجرح أكثر من مئة وعشرة آلاف فلسطيني معظمهم من الأطفال والنساء والشيوخ. ونجحوا أيضاً في إثارة موجة رفض عالمية ضد الرد العسكري الإسرائيلي على القطاع الذي لم يقم أي اعتبار لسلامة المدنيين. 

يبقى أبرز الأهداف وهو تحريك الساحات. تحركت الضفة الغربية فقمعت إسرائيل التحرك واعتقلت الآلاف من أبنائها. تحرّك حزب الله وفتح جبهة جنوب لبنان، لكن الإيقاع بقي مضبوطا. ونال شمالَ إسرائيل خراب، لكن القسط الأكبر من الخسائر البشرية والمادية وقع على لبنان. تحرك الحوثيون في اليمن وعرقلوا الملاحة في خليج عدن والبحر الأحمر بصواريخهم، لكنّ تأثيرهم بقي محدودا. تحركت الفصائل العراقية الموالية لإيران بدون جدوى. وردّت إيران شكليا على إسرائيل مرة واحدة معلنة الاكتفاء بردها في اللحظة التي كشفت عنه. 

ولكن هل حققت إسرائيل أهدافها؟ 

باعتراف الإسرائيليين أنفسهم، حققت إسرائيل انتصارات تكتيكية لكنها إلى الآن منكوبة بخسارة استراتيجية. فقد شبّه رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو حماس بتنظيم الدولة الإسلامية وقال إنه يريد سحق حماس كما سحق التحالف الدولي ضد الإرهاب تنظيمَ داعش في سوريا والعراق. لكن لا الجيش الإسرائيلي استطاع سحق حماس بدليل استمرار الهجمات، ولا حماس تشبه داعش، ولا استطاع التحالف الدولي سحق داعش رغم حصره في منطقة بين سوريا والعراق. اكتفى التحالف بالقول إنه أضعف قدرة داعش على تنظيم الهجمات الكبيرة لكنه لا يزال قادراً على شن الهجمات وإشغال الحكومات التي تهدف إلى القضاء عليه. 

في هذه الحرب، ليس في استطاعة إسرائيل بعد إعلان الانتصار. وبدأت مراكز الدراسات فيها تضغط على الحكومة لتغيير مقاربة مكافحة الإرهاب التي تعتمدها الحكومة والتي دفع المدنيون الفلسطينيون الثمن الأعلى فيها. 

وليس أيضاً في استطاعة حماس إعلان الانتصار. فانتصارها أنها تمكنت من البقاء ولو تحت الأرض، فيما قطاع غزة أصبح غير قابل للسكن. 

قبل أيام أعلن الرئيس جو بايدن اقتراحا لوقف إطلاق النار في غزة قال إن إسرائيل قدّمته، داعياً حماس إلى قبوله. ونُقل عن ثلاثة مسؤولين أميركيين قولهم إن بايدن أعلنه بدون انتظار موافقة نتنياهو عليه. وها هو اليوم يفكر في طرحه على مجلس الأمن لاستصداره بقرار. فهل سيتمكن من إقراره؟ وهل سيجد طريقه إلى التنفيذ؟