المفارقة الكبرى في الانتخابات التشريعية الهندية التي امتدّت ستة أسابيع، في أكبر بلدٍ في العالم من حيث عدد السكان، أنّ الحزب الحاكم بزعامة رئيس الوزراء ناريندرا مودي وزعيم حزب المعارضة الرئيسي راهول غاندي، كلاهما احتفلا بالنتائج. 

فالانتخابات مكّنت مودي زعيم حزب "بهارتيا جاناتا" الهندوسي المتشدّد، من وضع رجل واحدة في التاريخ كونه صار من بعد جواهر لآل نهرو، أوّل رئيس للوزراء في الهند يفوز بثلاث ولايات متتالية. لكنّه كان تتويجاً منقوصاً، لأنّ عدد المقاعد التي حصل عليها كانت أقلّ مما حصل عليه في الانتخابات عام 2019، وتالياً لن يكون بمفرده، ومن دون حلفائه، قادراً على تشكيل الحكومة الجديدة. 

صحيح أنّ "بهاراتيا جاناتا" حصل مع حلفائه على 291 مقعداً من أصل 543 تؤلّف مجموع البرلمان الهندي الفيديرالي، لكنّ حزب مودي بمفرده حصل على 239 مقعداً مقارنة بـ303 مقاعد في 2019. وهذا ما يذكّر بأول انتخابات فاز فيها مودي عام 2014، عندما اتّكل على حلفائه أيضاً لتشكيل أوّل حكومة له. 

هذه المفاجأة التي صنعها أكثر من 600 مليون ناخب شاركوا في الاقتراع، كانت مدعاة للاحتفال على جانب المعارضة بزعامة راهول غاندي، لأنّ حزب المؤتمر الذي يترأسه تمكّن من الحصول على 99 مقعداً بعدما كان عدد مقاعده 52 فقط في 2019. وبات في حوزة المعارضة مجتمعة 235 مقعداً. 

تعدّ هذه النتائج إخفاقاً لاستطلاعات الرأي التي كانت توقّعت فوزاً ساحقاً وبغالبية "غير عادية" للحزب الحاكم في البرلمان قد تصل إلى أكثر من 400 مقعد. وعلى هدي الواقع الذي أرسته صناديق الاقتراع، لا يستطيع مودي بعد الآن الزعم بأنّ لديه تفويضاً ساحقاً من الشعب الهندي للمضي في تشكيل الهند وفق رؤيته المتشدّدة، على رغم تعهّده في خطب الفوز "كتابة فصل جديد في تاريخ القرارات الكبرى". 

وبرزت تلميحات إلى قلق الحزب الحاكم من تدنّي نسبة الإقبال على الانتخابات وسط ارتفاع قياسي في درجات الحرارة في معظم البلاد. 

منذ وصوله إلى الحكم عام 2014، عمد مودي إلى بعث العصبية الهندوسية في مواجهة الأديان الأخرى في الهند، وخصوصاً المسلمين. وفي ذروة من ذرى التعصب، صوّر مودي نفسه على أنّه مرسل من الآلهة لإنقاذ "الأمّة الهندوسية"، في تماثل مع الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب الذي قال مراراً مبرراً القرارات التي يتّخذها، بأنّه "يؤدّي عمل الله". 

وعلاوة على تأجيج التعصّب، خاض مودي حملته لولاية ثالثة متكئاً على سردية الازدهار وتوسيع التقديمات الاجتماعية، التي يقول إنّها انتشلت الملايين من الفقر في بلد يبلغ تعداد سكانه 1.4 مليار نسمة. لكنّه سرعان ما حوّل حملته على مهاجمة المسلمين الذين يبلع عددهم في الهند 200 مليون نسمة، وذهب إلى حدّ تصوير بأنّ حزب المؤتمر المعارض مؤيّد للمسلمين. 

وتلقّى مودي الضربة الأقوى بدلالاتها في ولاية أوتار براديش معقل القومية الهندوسية والأكبر من الناحية السكانية. أمّا المعارضة التي وحّدت جهودها في تلك الولاية فنجحت في الحلول في الصدارة. وتراجعت مقاعد "بهاراتيا جاناتا" هناك إلى أقلّ من 30 مقعداً بعدما كانت 62 مقعداً في 2019. 

ومع أنّ الهند هي الاقتصاد الأسرع نموّاً في العالم (بنسبة 7.6 في المئة لعام 2023)، فإنّ معدلات البطالة لا تزال مرتفعة. وأربعة أخماس العاطلين عن العمل هم من الشباب. ويحصد الأثرياء المنتمون إلى الطبقات العليا المؤيدة لحزب "بهاراتيا جاناتا" معظم فوائد النمو. واتّسع عدم المساواة في عهد مودي إلى مستوى قياسي. والعام الماضي، فاقت لائحة أثرياء الهند في مجلة "فوربس" الـ200. وحلّت مومباي عاصمة المال والسينما محلّ بكين كـ"عاصمة للمليارديرات"، لتأتي فقط بعد لندن ونيويورك. 

يرى محللون أنّ لجوء حكومة مودي إلى استخدام أدوات السلطة لقمع المعارضة، ربما منع الحزب الحاكم من فهم المستويات العميقة من القلق الاقتصادي.

لكنّ الكثير من الاقتصاديين يتساءلون حول حقيقة القوة التي يتمتّع بها الاقتصاد الهندي، ويشيرون إلى تناقض في البيانات. ويجادل كثيرون أنّه بينما هناك نسبة مرتفعة من النموّ، فإنّها متمركزة في الطبقات العليا، وهذا ما يزيد من اتّساع الفجوة بين أغنياء الهند وفقرائها، إلى مستويات قياسية، ويقال أنّ واحداً في المئة من الهنود يستحوذون على 40 في المئة من ثروات البلاد. 

على هذه الخلفية من التناقضات في المستوى الاجتماعي، وجّه الناخبون رسالة استياء إلى مودي، ونقلوا ولاءهم إلى حزب المؤتمر. 

ويرى محللون أنّ لجوء حكومة مودي إلى استخدام أدوات السلطة لقمع المعارضة، ربما منع الحزب الحاكم من فهم المستويات العميقة من القلق الاقتصادي. وفي هذا السياق، أدخلت السلطات العديد من قادة المعارضة إلى السجن بتهم الفساد. ونظر الكثيرون إلى هذه الإجراءات بوصفها نوعاً من الانتقام السياسي. 

وفي ضوء هذه النتائج، تبرز جملة من الأسئلة حول أسلوب الحكم الذي سيتّبعه مودي من الآن فصاعداً. وهو سيكون حكماً تحت رحمة الأحزاب الصغيرة المتحالفة معه، وهذا ما سيعرّض حكومته لعدم الاستقرار، في حال تمرّد أحد هذه الأحزاب. 

كما أنّ مودي الذي اعتاد الحكم كرجل قوي وبسلطات تنفيذية من دون العودة كثيراً إلى البرلمان، لن يكون بعد اليوم مطلق اليدين، وسيكون مضطراً إلى إبرام تسويات وتقديم تنازلات، الأمر الذي سيحدّ من اندفاعته إلى تنفيذ المشاريع الكبرى، على حساب المحتاجين. 

وهناك تخوّف من أن يعمد مودي بعد الخيبة النسبية التي مني بها في الانتخابات إلى تسعير الخطاب الطائفي أكثر، أو إلى افتعال أحداث إقليمية مع باكستان، أو حتّى الصين، من أجل إعادة شدّ العصب حول سياساته. لكن أيّة مغامرة حيال هاتين الدولتين المسلحتين نووياً، قد تثير نزاعات لن تلبث أن تخرج عن السيطرة.