نقل نائب رئيس المجلس النيابي الياس أبو صعب إلى رئيس حكومة تصريف الأعمال نجيب ميقاتي، خلال الجلسة المخصصة لبحث موضوع النزوح السوري والهبة الأوروبية، سؤالاً طرحته عليه سيدة لبنانية مستفهمة بشأن العرض الأوروبي على اللبنانيين، أي "الهجرة الموسمية" و"هل نحن طيور مهاجرة؟".
لا يمكن أن يمرّ السؤال هكذا، كأنّه لم يكن.
بالفعل، أصبحنا طيوراً مهاجرة، لكنها لا تعود، وإن عادت قلّة منها، فتخشى المرور في سمائنا خوفاً من طائرة حربية أو مسيّرة انقضاضية، أو من استهدافها بنيران صيادين لا يعرفون من هواية الصيد سوى البندقية، أو في أحسن الأحوال، برصاصة طائشة أو بمقذوفة صاروخية أطلقها أحدهم إمّا حداداً على راحل أو احتفالاً بنجاح ولد في الشهادة المتوسطة.
هي الهجرة المكتوبة في تاريخنا كمصير لا مفرّ منه. كنّا نقرأها في أيام الطفولة على جدران البيوت المهجورة. "سافروا ع البرازيل" أو الأرجنتين أو أميركا. لا يهمّ، المهمّ أنّهم سافروا وبقيت تلك الأبواب تنتظر حتى خلّعتها العواصف وأتت على ما في الدار من ذكريات ذهبت مع الريح.
هي الهجرة للعمل في دول الخليج، عائلات كانت تنتظر الأب الذي يزور المنزل مرتين في السنة في أحسن الأحوال. كثيرة هي العائلات التي لم تعرف معنى المنزل والأسرة والاستقرار والسند والأب الحاضر دوماً. لكنّها هجرة أبقت على البيوت مفتوحة واستطاع بعض الآباء ممن حالفهم الحظّ أن يعودوا لتمضية آخر سِني العمر بين أهلهم، وكانوا سيستمتعون بتقاعدهم لو لم تبدد المصارف اللبنانية أموالهم.
هجرة الآباء إلى دول الخليج أعقبت موجات الهجرة الأولى إلى الغرب، ثمّ تراجعت لتحلّ محلّها هجرة الشباب اللبناني إلى الإمارات العربية المتحدة، دبي مركز الاستقطاب، بالإضافة إلى دول عربية عدة. نجح الشباب اللبناني في تثبيت حضوره في أسواق تنافسية عالمية، لكنه خسر الوطن. صحيح أن بعضهم اشترى الشقق هنا على أمل العودة ذات يوم. صحيح أنّه سيعود وقد طعن في السنّ، لكنّه حلم العودة. وها هي الشقق الفارغة تنتظر، وقد شاخت جدرانها، وترهّل أثاثها، ولم يعد مالكوها بعد.
صحيح أنّ الهجرة إلى دول الخليج، كما إلى غيرها من الوجهات، واجهت مصاعب وتعقيدات خلال السنوات الماضية. إلّا أنّ المشكلة تكمن في أنّ "اللي بيسافر ما بيرجع". وإن عاد فيعود كي يعدّ العدّة للسفر من جديد، ولو إلى مقاصد جديدة.
الهجرة الموسمية التي تحدثت عنها رئيسة المفوضية الأوروبية خلال لقائها ورئيس الحكومة نجيب ميقاتي يحلو لنا أن نتخيّلها كرحلة إلى الكروم في إيطاليا أو فرنسا أو غيرهما حيث يتجمّع الشباب بفرح في احتفال دوس العنب، أو ربما في المزارع الكبرى حيث غابت اليد العاملة المحلّية، وباتت ضروريةً الاستعانة بيد عاملة وافدة لموسم أو اثنين أو أكثر، حسبما ترتئي الإدارة الحاكمة وصاحبة الأمر في ملف النزوح السوري إلى لبنان.
للمناسبة لا بد من توضيح أنّ الهجرة الموسمية المعروضة على اللبنانيين هي للقيام بما يقوم به السوريون في لبنان من أعمال يدوية موسمية. إذاً، فلنذهب إلى العمل في مواسم أوروبا ونترك مواسمنا للسوريين.
لا داعي إلى الحديث عن التوصية التي خرج بها مجلس النواب في ما يتعلّق بالهبة الأوروبية أو النزوح السوري، فنحن نعيش في بلد فقد أغلب مواطنيه ثقتهم بمسؤوليه. ومواطنو البلد هم غير مواطني الجماعات والزعامات. الخشية في أن يكون ما جرى في هذه الجلسة محاولة تنفيس الغضب الشعبي الذي أعقب سلسلة أحداث شهدتها البلاد، وكانت متصلة بالنزوح السوري وتبعاته.
الوعد الأوروبي بموضوع الهجرة الموسمية تزامن مع مطالعتي كتاب الصديق عبيدو باشا "تعا ولا تجي" الصادر في مئوية ولادة عاصي الرحباني. وخطر لي: إذا كان الوعد الأوروبي بالهجرة الموسمية مجرد دعوة، فقد تكون هذه الدعوة على شاكلة "تعا ولا تجي"، وقد تكون بمعنى تعا ولا ترجع إلى وطن عاصي ومنصور وفيروز، وطن الغيم الأزرق.