تعدّى تصويت الجمعية العامّة للأمم المتّحدة بغالبية ساحقة (143 صوتاً من أصل 193) الأسبوع الماضي، على منح فلسطين حقّ العضوية الكاملة في المنظّمة الدولية، سياق الرّمزية إلى ما هو أبعد وأهم، نظراً إلى الظروف التي أحاطت بهذا التصويت وما رافقه من تحذيرات أميركية وإسرائيلية من مخاطر الإقدام على خطوة كهذه.

في 18 نيسان الماضي، حال الفيتو الأميركي دون تبنّي مجلس الأمن لمشروع قرار جزائري يدعو إلى منح فلسطين العضوية الكاملة في الأمم المتحدة، على رغم أنّ 13 دولة من أصل 15 أيّدت المشروع مع امتناع بريطانيا عن التصويت. لذلك أتى نقل التصويت إلى الجمعية العامّة حيث لا تتمتّع أيّة دولة بحق النقض، ليكشف عن إرادة دولية متنامية تؤمن بأنّ السبيل الوحيد لإقامة دولة فلسطينية مستقلّة، ليس التفاوض أو التعلّل بحلّ الدولتين غير القابل للتحقّق في ظلّ الرّفض الإسرائيلي المطلق لقيام دولة فلسطينية، وإنّما بات الأمر متعلّقاً بالمسؤولية الأخلاقية للمجتمع الدولي، وبضرورة رفع الظلم التاريخي الذي لحق بالفلسطينيين.

من المؤكّد أنّ الحرب الإسرائيلية المدمّرة على قطاع غزّة المستمرّة منذ أكثر من سبعة أشهر وارتفاع أعداد الضحايا الفلسطينيين إلى أكثر من 35 ألفاً ونحو 80 ألف جريح، قد عرّت الشرعيّة الإسرائيلية في العالم، ودفعت دولاً كثيرة إلى إعادة النّظر في مواقفها المؤيّدة للدولة العبرية.

وتنبع أهمّية قرار الجمعية العامّة من كونه تضمّن رفع توصية إلى مجلس الأمن من أجل "إعادة النظر بإيجابية" في مسألة منح فلسطين العضوية الكاملة في المنظّمة الدولية، الأمر الذي أغضب إسرائيل وأخرج مندوبها في الأمم المتحدة مايكل إردان عن طوره، وجعله يمزّق ميثاق الأمم المتحدة من على منبر الجمعية العامّة، متناسياً أنّ إسرائيل نفسها قامت بقرار من الأمم المتحدّة نفسها، وأنّ القرار نفسه نصّ على دولة فلسطينية. وفي هذه الأيام التي يحيي الإسرائيليون ذكرى تأسيس دولتهم، التي كانت نكبة على الفلسطينيين عام 1948، ترتكب الحكومة الإسرائيلية نكبة جديدة في قطاع غزة.

ومن شأن القرار الأخير للجمعية العامّة، أن يمنح الفلسطينيين بعض الحقوق الإضافية والميزات اعتباراً من أيلول 2024 مثل مقعد مع الدّول الأعضاء في الأمم المتحدة في قاعة الجمعية العامة، لكن من دون أن يكون لهم الحق في التصويت فيها.

وللفلسطينيين حالياً وضع دولة غير عضو لها صفة مراقب (على غرار الفاتيكان)، وهو اعتراف فعلي بدولة أقرّته الجمعية العامة في 2012.

أمّا واشنطن التي تتمسّك بموقفها القائم على أنّ المفاوضات هي الطريق الوحيد لإقامة الدولة الفلسطينية، فيبدو أنّ هذا التمسّك صار من قبيل الترف، في وقت تعجز عن حمل إسرائيل على القبول بوقف للنار في غزّة (ولو مؤقّتاً)، فكم يحتاج الأمر إلى جعلها تقبل بدولة فلسطينية؟

هناك ميل متصاعد داخل الاتّحاد الأوروبي إلى الإقدام على الاعتراف بدولة فلسطين، لكن تهديد المجر بالفيتو يمنع من التوصّل إلى اتفاق.

وقال الممثل الأعلى للاتحاد الأوروبي جوزيب بوريل الصواب عندما وصف السياسة الأميركية بالنّسبة إلى حلّ بأنّها تعاني من "الإرهاق". هذا حتى لا يقول من الفشل.

وحالت الضغوط التي مارستها واشنطن عام 2012 دون مواصلة السلطة الفلسطينية مسألة طلب الانضمام إلى الأمم المتحدة ككيان كامل العضوية، على أمل أن تسفر المفاوضات عن التوصّل إلى حلّ الدولتين.

أهمية قرار الجمعية العامة في هذا التوقيت هي أنّه يشجع دولاً كثيرة في العالم على الإقدام على الاعتراف بدولة فلسطين مباشرة، من دون انتظار المفاوضات. ويتعيّن التوقّف عند قرار بهذا الشأن ستعلنه إسبانيا وإيرلندا وسلوفينيا في 21 أيار الجاري. وهناك ميل متصاعد داخل الاتّحاد الأوروبي إلى الإقدام على الاعتراف بدولة فلسطين، لكن تهديد المجر بالفيتو يمنع من التوصّل إلى اتفاق. ويقيم رئيس الوزراء المجري فيكتور أوربان علاقات وطيدة مع رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو. والمجر هي من سبع دول في مقدّمها الولايات المتحدة، عارضت قرار الجمعية العامّة منح الفلسطينيين العضوية الكاملة في الأمم المتحدة.

لكن هذا لا يمنع من وجود توجّه لدى دول أخرى في الاتحاد الأوروبي تعتزم الذهاب إلى الاعتراف بدولة فلسطين.

الجدير بالذكر أنّ تصويت الجمعية العامة أتى مترافقاً مع نظر محكمة العدل الدولية في دعوى رفعتها جنوب أفريقيا وانضمت إليها نيكاراغوا وليبيا (وتعتزم مصر أيضاً الانضمام إليها) تتهم إسرائيل بارتكاب إبادة جماعية بحق ّالفلسطينيين في قطاع غزة. كما أنّ المدّعي العام في المحكمة الجنائية الدولية كريم خان ينظر في احتمال إصدار مذكّرات توقيف بحقّ رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو وسياسيين وعسكريين إسرائيليين آخرين، بتهمة عرقلة وصول الإمدادات الإنسانية إلى قطاع غزة، وهو عمل يرقى إلى جريمة حرب.

وزاد تفجّر الاحتجاجات في الجامعات الأميركية والأوروبية تضامناً مع فلسطين، من عزلة إسرائيل الدولية، وهذه كولومبيا تقطع العلاقات الديبلوماسية مع تل أبيب، وتركيا تعلّق تعاملاتها التجارية معها.

الحرب الإسرائيلية على غزة، أعادت على غير ما ترغب إسرائيل، القضية الفلسطينية إلى واجهة الأحداث وكقضية أولى في العالم. وليس أدلّ على ذلك من حجم التضامن مع الفلسطينيين دولياً على شكل تظاهرات تخرج كلّ أسبوع منذ سبعة أشهر.