علّقت الولايات المتحدة الأميركية شحنة أسلحة إلى إسرائيل في محاولة لثنيها عن القيام بعملية حربية واسعة ضد مدينة رفح. تدبير هلّل له الكثيرون على اعتبار أنّه أقصى ما يمكن أن تلجأ إليه الإدارة الأميركية للجم جنوح "بيبي" كما يسمّي الرئيس جو بايدن رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو.

هي واشنطن التي رفضت أيّ إدانة لإسرائيل عن كلّ ما ارتكبته في غزّة من جرائم حرب ترقى إلى مستوى الإبادة الجماعية بحسب خبراء في الأمم المتحدة نفسها. وهي التي استخدمت حق النقض "الفيتو" في وجه أي قرار أممي. وهي التي أعلنت معارضتها قيام المحكمة الجنائية الدولية بالتحقيق في ممارسات إسرائيل في غزة. وقالت المتحدثة باسم البيت الأبيض إنّ موقف الولايات المتحدة في منتهى الوضوح في ما يتعلّق بهذا التحقيق "نحن لا نؤيده، ولا نعتقد أنّه من اختصاصها".

هي أميركا التي أقرّت أخيراً حزمة مساعدات عسكرية لإسرائيل تبلغ نحو 14 مليار دولار، وتأتي بعد 7 أشهر على الحرب التي تخوضها إسرائيل ضد قطاع غزة المحاصر، والذي لا تزيد مساحته على 41 كيلومتراً مربّعاً كان يقطنه نحو مليونين و200 ألف نسمة، قتل الجيش الإسرائيلي نحو 35 ألفاً منهم، أغلبهم من الأطفال والنساء، وضعفَيْ هذا الرقم من المصابين، من دون تعداد المفقودين في ظل ما يحكى عن ضحايا تحت الركام وعن جرائم إعدام جماعي ومقابر جماعية لم يُكشف عنها بعد. وخلّف القصف الإسرائيلي على القطاع، بحسب الأمم المتحدة، حوالى 37 مليون طن من الركام والأنقاض تحتاج إلى 14 عاماً لإزالتها.

تعليق شحنة الأسلحة الأخيرة، على ضآلة أهميّته كتدبير، مقارنة بما ارتكبته إسرائيل، ولا تزال، من جرائم بدعم أميركي غربي، هل كان ليحدث فقط بسبب موقع رفح ومعبرها عند الحدود المصرية، والخشية من صدام مصري إسرائيلي؟ أم هو انعكاس لمعركة الرأي العام في الولايات المتحدة الأميركية على وقع احتجاجات الطلاب الجامعيين في مختلف أنحاء البلاد، بعدما استدعت تدخل القوى الأمنية لقمع المحتجين وإزالة خيمهم من حرم بعض الجامعات والتهويل على المتظاهرين بتهمة معاداة السامية أو كراهية اليهود، متجاهلين ومجهّلين وجود يهود في صفوف المتظاهرين أنفسهم يرفضون أن يكون باِسْمهم ما يحصل في فلسطين من جرائم قتل لشعب أعزل.

الحراك الجامعي الذي انتشر في العالم الغربي، ولم يعد محصوراً في أميركا أو فرنسا أو ألمانيا، دفع بالإدارات المعنية في هذه البلدان وغيرها (الإدارات كلمة مخففة عن تسمية الأنظمة في مكان آخر من العالم) إلى محاولة تشويه هذه التحركات بنسبها إلى المهاجرين حيناً، أو إلى كارهي اليهود حيناً آخر، أو تصويرها على أنها تهديد للأمن ولحياة المواطنين، في استعادة لما كانت تقول به الأنظمة من رواية رسمية للأحداث في زمن ما اصطلح على تسميته "الربيع العربي". كما من خلال التقليل من أهمّيتها وإمكان الاستثمار فيها والبناء عليها لجيل قادم في الغرب يؤمن بالإنسان من دون تفضيل بشرة على أخرى، ولا العيون الزرق على العيون العسلية أو السود.

المجازر التي ارتكبتها إسرائيل بحق الفلسطينيين العزّل فتحت نافذة جديدة على التاريخ

حرية التعبير في العالم الغربي مكفولة بشرط أن تجاري توجهات السلطات الحاكمة "المنتخبة". هذه هي نقطة الخلاف مع الأنظمة الحاكمة في ما يُسميه الغرب "الدول القمعية"، حيث لا انتخابات ولا حرية تعبير. إذاً، هي حرية التعبير التي تتوافق مع الرواية الرسمية للأحداث. وكل من يخالف هذه الرواية يمكن شيطنته واتهامه بمحاباة موسكو والوقوف معها في حربها ضد أوكرانيا، أو معاداة السامية بتعريفها الموسع الذي يدخل فيه كل انتقاد لإسرائيل كنظام أو كجيش أو كمستوطنين ارتكبوا، ولا يزالون، المجازر بحق المدنيين الفلسطينيين.

المجازر التي ارتكبتها إسرائيل بحق الفلسطينيين العزّل فتحت نافذة جديدة على التاريخ، بل فتحت باباً تسرّب منه شباب المستقبل الغربي بحثاً عن حقيقة صراع كان يُراد له أن يُدفن بين دفّات كتب التاريخ، فإذا به يفيض، كما نهر جارف لكل الضفاف، نهر من الضفة إلى غزة إلى رفح، لا يحمل راية أو مشروعاً سياسياً ولا ينهمك بهذا الأمر، تيار يحمل همّ الإنسان وحقّه في الحياة وفي تقرير المصير.

على الرغم من محاولات الانتقاص من أهميّة الانتفاضة الجامعية في الغرب، ومن مستويات تأثيرها وانعكاساتها، وما يمكن أن تحمل من تغيّرات أو تعديل في سلوك بعض الجامعات والمؤسسات التربوية، يبدو أن الرئيس الأميركي أيقن، قبل أشهر قليلة من الانتخابات الرئاسية، أن غزة ستكون ورقة وازنة في ميزان الربح والخسارة.

أول الغيث قطرة، وقد تكون أولى ملامح التغيير شحنة أسلحة وشباب أميركي جامعي يرفع علم فلسطين.