التعديلات على الورقة الفرنسية الخاصّة بتطبيق القرار 1701 في الجنوب وقطع دابر التهديد الإسرائيلي بشنّ حرب شاملة على لبنان، تبيّن للمسؤولين اللبنانيين أنّها لم تأخذ (كما أُعلن) بالملاحظات اللبنانية بالمعنى الدقيق للكلمة، وإنّما جاءت تلاعباً على الألفاظ كاستبدال تعبير "تموضع" أو "إعادة موضوع" بدل "إعادة انتشار" أو انتشار. ولم تأخذ بكلّ المطالب اللبنانية المتعلّقة بالحدود، خصوصاً في ما يتعلّق بالانسحاب من مزارع شبعا وتلال كفرشوبا المحتلة.

بحسب المعلومات التي وصلت إلى مراجع لبنانية معنية، فإنّ الجانب الإسرائيلي أكّد استعداده للبحث في موضوع النقطة B1 في الناقورة وبقية النقاط التي يتحفّظ لبنان عنها على خط الحدود المرسوم منذ عام 1923 وصولاً إلى اتفاقية الهدنة المعقودة في آذار 1949. ولكنه يرفض البحث في موضوع الانسحاب من تلال كفرشوبا ومزارع شبعا، التي يعتبرها سورية ويربطها بموضوع الجولان السوري المحتلّ كونها خاضعة لمنطقة عمل قوات "الأندوف" العاملة هناك.

عودة الى ما قبل "الطوفان"

وفي ضوء هذه التطورات، تفيد المعلومات بأنّ لبنان أبلغ إلى الفرنسيين والأميركيين استعداده للقبول بعودة الوضع على الحدود الجنوبية إلى ما كان عليه قبل عملية طوفان الأقصى في 7 تشرين الأول الماضي، وأنّه بمجرد حصول اتفاق على وقف لإطلاق النار في غزّة تتوقف المقاومة عن إطلاق النار تلقائياً في الجنوب اللبناني من دون حاجة إلى أيّ ترتيبات جديدة. فلبنان يلتزم موجبات تنفيذ القرار 1701 منذ صدوره عام 2006 فيما إسرائيل لم تلتزمه يوماً. كما أبلغت بيروت إلى المعنيين أن لا مانع لديها ولدى المقاومة من أن يزيد الجيش اللبناني من عديده المنتشر في جنوب الليطاني ليصبح عشرة آلاف جندي حسب ما يقضي القرار الدولي. ولكنّ لبنان يريد في الوقت نفسه أن تكون المنطقة العازلة على جانبي الحدود وليس في الجانب اللبناني فقط. علماً أنّ إسرائيل إذا أوقفت إطلاق النار في غزّة ،وهو مطلب حزب الله لوقف إطلاق النار في الجنوب، فإنّ ذلك سيؤدّي تلقائياً إلى وقف إطلاق النار على حدود لبنان الجنوبية. وبالتالي، يصبح بإمكان النازحين اللبنانيين العودة إلى القرى والبلدات الحدودية التي نزحوا منها. وفي المقابل، يمكن المستوطنين الإسرائيليين النازحين العودة إلى المستوطنات الشمالية، وبالتالي فإنّ التهديد الإسرائيلي في هذا المجال هو بلا معنى، خصوصاً أنّ تل ابيب غير قادرة على تنفيذه لأنّ الولايات المتحدة الأميركية تعارض شنّ حرب شاملة ضد لبنان أو المنطقة.

وفي هذا الإطار، تقول معلومات ديبلوماسية إنّ واشنطن أبلغت إلى إسرائيل موقفاً صارماً يرفض الذهاب إلى حرب شاملة انطلاقاً من جنوب لبنان، وأكّدت لها أنّها بذلت جهوداً مضنية أدت إلى أن يأتي الرد الإيراني على قصف القنصلية الإيرانية في دمشق محدوداً، بعدما كان متوقعاً له أن يكون مدمّراً. وبالتالي، على إسرائيل في هذه الحال أن تلتزم النصيحة الأميركية بعدم الذهاب إلى حرب مفتوحة لا يمكن واشنطن أن تتحكّم بها، بحيث أنّها إذا بدأت بلبنان فلا أحد يمكنه منع توسّعها لتشمل سوريا والعراق وإيران واليمن وربما الضفة الغربية، وهذا ما سيشكّل خطراً كبيراً على إسرائيل التي تعيش الآن أزمة وجودية.

النزوح السوري

في آخر تطورات ملف النزوح السوري، فقد تبيّن للمسؤولين اللبنانيين أنّ الاهتمام الأوروبي الملحوظ به، هذه المرة، ما كان ليحصل لولا حراك الرئيس القبرصي الذي جاء في زيارته الأولى للبنان يشكو من تدفّق آلاف النازحين السوريين إلى الجزيرة، ظنّاً منه أنّهم ينطلقون من لبنان، وقد بلغ عددهم 3000 نازح وطلب إعادتهم إليه قبل أن يتبيّن له أنّهم نزحوا إلى الجزيرة من مسارب أخرى وليس من الأراضي اللبنانية. وبالتالي، أكّد لبنان أنّه لا يتحمّل أيّ مسؤولية في هذا المجال، علماً أنّ تعليمات أُعطيت إلى الأجهزة العسكرية والأمنية، فحواها أن لا تمنع بعد اليوم ولا تعترض نازحين بحراً أو براً حتى إلى أوروبا أو غيرها تحت طائلة تحمّل عواقب هذا المنع إن حصل وأُعيد أي نازح من هؤلاء إلى لبنان، خصوصاً بعدما تبيّن أنّ قسماً من الثلاثة آلاف الذين نزحوا إلى قبرص أُعيد قسم منهم إلى لبنان، وعندما فوتحت الجهات التي أعادتهم، أكّدت أنّها تعرّضت لضغط أميركي. فلبنان، في الأساس، وبناء على اتفاق بينه وبين المفوضية الأممية، ليس بلد لجوء أو نزوح للسوريين أو لغيرهم.

نازحون اقتصاديون

وأكثر من ذلك، فإنّ رئيس الحكومة نجيب ميقاتي استفاض في محادثاته مع الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون في الإليزيه ثم في بيروت مع الرئيس القبرصي والمسؤولة الأوروبية أورسولا فوندرلاين، استفاض في شرح خطر النزوح السوري على لبنان، مشدّداً على الدول الأوروبية أن تساعد لبنان في هذا المجال لا أن تلقي الأعباء عليه. وأكد ميقاتي لماكرون أنّ النازحين السوريين في لبنان هم نازحون اقتصاديون في غالبيتهم الساحقة، وعلى الدول الأوروبية أخذ هذا الأمر في الاعتبار، ومساعدة هؤلاء في العودة إلى بلدهم وتقديم مساعدات مباشرة لهم هناك، سواء على مستوى تمكينهم مادياً من ترميم بيوتهم المتصدّعة وإعادة إعمار المهدّم منها، لأنّ الاستمرار في تقديم المساعدة إلى النازح السوري في لبنان بالطريقة القائمة سيبقيه مقيماً فيه، وبالتالي، توطينه فيه، خصوصاً إذا تأخّر حصول الحلّ السياسي للأزمة السورية التي لم تنته فصولاً بعد على رغم سيطرة النظام على أكثر من 80% من الأراضي السورية.

سمّ دُسّ في عسل

على أنّ مساعدة المليار يورو التي قرّر الاتحاد الأوروبي تقديمها إلى لبنان مقسّطة على ثلاث سنوات حتّى العام 2027، هي، في رأي بعض المعنيين "لا تسمن ولا تغني من جوع" إذ إنّ لبنان يتكبّد ما يراوح بين أربعة و 6 مليارات من الدولارات سنوياً منذ بدء النزوح عام 2011 إلى اليوم، ولم يحصل إلّا على فتات من المساعدات اذا ما قورنت بما قُدّم إلى تركيا والأردن وغيرهما وبلغ عشرات المليارات من الدولارات. ولذلك هناك شكوك كبرى لبنانية تحوم حول مبلغ المليار يورو والخلفيات التي ينطوي عليها قرار تقديمه إلى لبنان في هذه الظروف، فهو، في رأي البعض، أمرٌ ملتبس أو بمنزلة "سُمٍ دُسَّ في عسل" لأنّه من الآن إلى عام 2027 قد تحصل متغيّرات كثيرة في لبنان والمنطقة والعالم، خصوصاً في حال عودة دونالد ترامب إلى البيت الأبيض مجدداً، وهو الأمر المرجّح حتّى اليوم، على حساب الرئيس الحالي جو بايدن، ما يعني أنّه سيستأنف مشاريعه في المنطقة، ومنها "صفقة القرن" التي تُجهز على القضية الفلسطينية وتوطّن اللاجئين الفلسطينيين في دول الشتات، وتقيم خريطة جيوسياسية جديدة للمنطقة.