بدا لبنان بالأمس متسوّلاً على استعداد لبيع كرامته وهويته وأرضه مقابل حفنة من الدولارات. "توقفوا عن إثارة قضية النازحين السوريين. وهذا ثمن سكوتكم". هكذا جاء الكلام الأوروبي عن حزمة مساعدات وتقديمات مقابل إسكات كل صوت معارض لوجود ما يزيد على مليوني نازح سوري، في وطن لا يزيد عدد سكانه على 6 ملايين وعلى مساحة 10452 كيلومتراً مربّعاً. وهو البلد الذي يستضيف أكبر نسبة من النازحين قياساً على المساحة وعدد السكان، وذلك بحسب المفوضية العليا لشؤون اللاجئين نفسها التي تمارس ضغوطاً لإبقائهم فيه.
مع عودة الاستقرار إلى لبنان بعد تطبيق اتفاق الطائف في تسعينيات القرن الماضي، انتهجت السلطات اللبنانية مبدأ الاستدانة في سبيل إعادة إعمار ما هدمته الحرب، فراكمت ديناً مقابل مشاريع غير إنتاجية قامت على فكرة أنّ المنطقة مقبلة على اتفاق سلام، ويمكن، إن توفرت البنية التحتية المناسبة، أن يتحوّل لبنان إلى منتجع سياحي كبير يقصده أهل الخليج العربي. واستُثمر هذا الدين في مشاريع لا علاقة لها بالصناعة أو الزراعة. فالمصانع قد تزعج راحة السائح، والأراضي الزراعية يمكن تحويلها إلى منتجعات أو بناء القصور الفاخرة فوقها، واستمرّ العمل من أجل تحقيق هذه الرؤيا للبلاد حتى طار مشروع السلام الموعود. وانطلق مسار البحث عن تأجيل دفع الديون عبر ديون جديدة، هذه المرّة مع رهان على أن حل القضية الفلسطينية وحق العودة والتعويضات وانخراط لبنان بمشروع السلام يمكن أن تنتهي بشطب الديون. وإن رفضت بيروت ما يطرح عليها من مشاريع حلول فستكون أضعف من أن ترفض. ستكون مشغولة بالتهديد المتمثل في حجم ديونها وفوائد الديون. وكان المشروع حينذاك يقضي بتوطين نحو مليون فلسطيني في لبنان، وهو مشروع رُوّج له وتم الحديث عن مناطق خُصّصت لإقامتهم.
لم يحصل السلام ولم تُشطب الديون وبقي من بقي من اللاجئين الفلسطينيين في لبنان وهاجر من هاجر. صحيح أن مشروع الوطن البديل كان فكرة غربية تقول بأن حل القضية الفلسطينية الإسرائيلية هو في ترحيل الفلسطينيين وتوطينهم فيه، ولكنها فكرة اصطدمت بوجود شعب في لبنان قاوم ورفض الهجرة والتهجير بعدما عاين ما حلّ بالفلسطينيين أنفسهم يوم أصيبوا بنكبتهم. إلا أن الغرب نفسه لا يزال يرى أن لبنان الضعيف المرهونة إرادته، والمنهار مالياً والمصاب بداء تفكك سلطاته، أعجز من أن يرفض مشيئة الخارج. لذا، ما إن بدأ الحديث عن ترحيل سكّان غزة حتى برز اسم لبنان كوجهة محتملة.
بالأمس، بدا لبنان كتلميذ معاقب، حضر أساتذته لتأنيبه على ما ارتكب من أخطاء، ومساءلته عن أسباب تساهله مع النازحين السوريين الهاربين بحراً إلى أوروبا. وهي أوروبا نفسها التي رفضت الاستماع إليه، وإلى هواجسه ومخاوفه من النزوح السوري الذي بدأ يزعزع استقرار البلاد المهزوز أصلاً.
بالأمس، بدا لبنان كتلميذ معاقب، حضر أساتذته لتأنيبه على ما ارتكب من أخطاء، ومساءلته عن أسباب تساهله مع النازحين السوريين الهاربين بحراً إلى أوروبا.
بالأمس، تم لوم لبنان لأنه سمح بوصول عشرات السوريين إلى شواطئ قبرص. عشرات السوريين يسببون القلق لأوروبا ولكن ما يزيد على مليوني سوري في لبنان لا بأس بهم ما داموا يخدمون الأجندة الغربية ورؤيتها للحل في سوريا.
مليار يورو على مدى ثلاث سنوات مساعدةٌ من الاتحاد الأوروبي من أجل دعم الخدمات الأساسية لأكثر الفئات ضعفاً في لبنان، بمن فيهم اللاجئون والمهجّرون داخلياً والمجتمعات المضيفة. إذاً، حتى المبلغ الذي حمله الأوروبيون إلينا سنتقاسمه مع اللاجئين والنازحين. وبعضه سيذهب إلى المساعدة على منع تسرب النازحين وتسللهم إلى أوروبا وغيرها.
مليار يورو على مدى ثلاث سنوات مساعدةٌ من الاتحاد الأوروبي من أجل دعم الخدمات الأساسية لأكثر الفئات ضعفاً في لبنان، بمن فيهم اللاجئون والمهجّرون داخلياً والمجتمعات المضيفة. إذاً، حتى المبلغ الذي حمله الأوروبيون إلينا سنتقاسمه مع اللاجئين والنازحين. وبعضه سيذهب إلى المساعدة على منع تسرب النازحين وتسللهم إلى أوروبا وغيرها.
أوروبا قالت كلمتها وأميركا سبقتها. سيظلّ مصير لبنان ومستقبله عرضة للتهديد والابتزاز، وسيظل هذا الحصار مفروضاً علينا حتى نرضى بالتسوية الخارجية التي يهلل لها البعض، ولو على حساب السيادة والكرامة الوطنية والانتماء.
الدين العام الذي تخلّفنا عن سداده بعد العجْز عن سداد فوائده، أدخلنا في مرحلة العجز الكلي، ثم إلى مرحلة الرضوخ وطأطأة الرؤوس أمام المندوب السامي والمفوضية السامية التي بات بيدها رسم مصيرنا بحسب مخططاتها لتوطين اللاجئين الفلسطينيين والنازحين السوريين في لبنان. هكذا كان مشروع الاستدانة دوماً، كما المصارف تقرض مقابل رهن، ويبدو أننا رهنّا بلادنا وجاء يوم الحساب.
الردود الغاضبة التي أعقبت جريمة من هنا، أو ممارسات من هناك، لم تكن يوماً هي الحل. والرهان على السلطة السياسية بواقعها الراهن لا يبدو أنه الخلاص. فهل من خيار ثالث جامع تتوحد عليه الأحزاب والجماعات اللبنانية ويكون عابراً لاصطفافاتها وانقساماتها، يتجسد فيه خلاص لبنان بما يضمن وجوده وتنوعه وخصوصيّته؟
لا نملك سوى الانتظار، ولكن ليس إلى وقت طويل.