ما دام لبنان يرزح تحت عبء النزوح السوري، لا بدّ من مواجهةٍ حتميةٍ بين المجتمع اللبناني بمختلف أطيافه (حكومة، معارضة، قادة رأي، المجتمع الأهلي...) من جهةٍ، و"المجتمع الدولي" ممثّلًا بالأمم المتحدة والدول الكبرى الشريكة في الحرب على سوريا من جهةٍ أخرى، لطالما يرفض هذا الأخير بدوره إعادة النازحين إلى الأماكن الآمنة في سوريا في المدى المنظور، كي يتمكّن من وضع أزمة النزوح على سكّة الحلّ المرتجى، فليس أمام هذا البلد إلّا خوض غمار هذه المواجهة ما دامت هذه الأزمة تشكّل خطرًا وجوديًا على لبنان، من حيث تركيبته الديموغرافية، ناهيك بالارتدادات السلبية لهذه الأزمة على أوضاعه الاقتصادية والاجتماعية والأمنية. فهل يذهب لبنان في خوض هذه المواجهة المصيرية حتى الوصول إلى خواتيمها المرجوة، أم تتراجع حكومته كعادتها عن المطالبة بإنهاء هذه الأزمة تحت تأثير الضغوط الدولية؟

المستغرب، اليوم، هو هذه الاستفاقة الرسمية اللبنانية، تحديدًا لجهة "المساعي" التي يبذلها رئيس حكومة تصريف الأعمال نجيب ميقاتي لدى فرنسا وسواها، لمساعدة لبنان في إيجاد حلٍ مقبول لقضية النزوح السوري، على أن يحفظ هذا الحلّ المرتجى كرامة النازحين قبل أيّ أمرٍ آخر، بعدما همّش ميقاتي دور وزير المهجرين عصام شرف الدين ومساعيه الرامية إلى حلّ هذه الأزمة على مدى أكثر من سنتين! وقبل ذلك، تحديدًا إثر بدء الحرب الكونية على سوريا في ربيع العام 2011، التي دفعت بالنازحين اللجوء إلى لبنان، "قامت الدنيا ولم تقعد" عندما حذّر رئيس التيار الوطني الحر النائب جبران باسيل من التداعيات الخطرة لأزمة النزوح السوري إلى لبنان، داعيًا إلى تضافر الجهود الداخلية، وتوحيد الموقف اللبناني من هذا الخطر الوجودي، فاتهمه أطراف لبنانيون بـ "العنصري". فها هو اليوم رئيس السلطة التنفيذية اللبنانية يستشعر هذا الخطر، فيحمل "قضية النزوح" إلى عواصم القرار المؤثّرة في القضية، سعيًا لإنهائها، وهو ما حدث في الأيام القليلة الفائتة، عندما أثار ميقاتي هذه القضية أمام الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون خلال لقائهما الأخير. غير أنّه وبرغم تراجع قيمة المساعدات المالية المخصّصة للنازحين السوريين، إثر الحرب الروسية - الأطلسية على الأراضي الأوكرانية، فقد وعد ماكرون ضيفه رئيس الحكومة اللبنانية باستمرار الدعم المالي المخصّص للنازحين السوريين في لبنان، أي مجرد وعودٍ لا أكثر، ولكن من دون أن يساعد بيروت على إيجاد حلٍّ للأزمة المذكورة وغير المسبوقة في تاريخ لبنان، والتي أرهقت كاهله، وكأنّ هذا البلد من الدول الصناعية الكبرى، حيث بلغت التكاليف المباشرة وغير المباشرة للنزوح السوري، نحو "60 مليار دولار"، بحسب تقديرات وزارة المال. ويبدو أنّ ميقاتي اسشعر هذا الخطر، "ولو بعد حين"، لذا أثاره أمام الرئيس الفرنسي وسواه. وقد يكون هذا التطور الإيجابي في موقف ميقاتي من قضية النزوح، بمنزلة "الخطوة على طريق الألف ميل" لإيجاد حلٍّ لأزمة "النزوح"، ولو جاء متأخرًا.

وفي سياق المواجهة المرتجاة المذكورة أعلاه، يأتي أيضًا رفض الأمم المتحدة لعودة النازحين السوريين إلى بلادهم في الظروف الراهنة غير الملائمة للعودة برأيها. فهي تختلف مع الحكومة اللبنانية في شأن تحديد المناطق الآمنة في سوريا، فلا يزال المسؤولون الأمميون يعتبرون أنّ "الأراضي السورية الخاضعة لسلطة الدولة غير آمنةٍ حتّى الساعة"، في وقتٍ تعتبر بيروت أنّ هذه المناطق آمنة وملائمةً لعودة النازحين. ويطالب ممثلو الأمم المتحدة في لبنان الجهات الرسمية المختصّة، بالتزام "إتفاقية اللاجئين 1951"، مع العلم أنّ لبنان لم يوقّع هذه "الإتفاقية". وينصّ أحد الأحكام الرئيسية فيها على عدم جواز إعادة اللاجئين. لذا، لماذا لا تتخذ الحكومة قرارًا جريئًا لحماية لبنان من كلّ تداعيات النزوح على المستويات كافة، وفي مقدمها المستوى الديموغرافي والمستوى الأمني والمستوى الاقتصادي، وتبادر تاليًا إلى تفعيل العلاقات الثنائية اللبنانية - السورية على مستوى حكومتي البلدين، للتفاهم على خطّة لإعادة النازحين إلى ديارهم بكرامةٍ؟

على ما يبدو، فعلت الحكومة اللبنانية عكس ذلك، فقد اتخذت قرارًا بخفض مستوى التعاطي الرسمي اللبناني مع السلطات السورية، من تكليف موظف من الفئة الأولى بالأصالة هو المدير العام السابق للأمن العام اللواء عباس إبراهيم، إلى تكليف موظف بالإنابة هو المدير العام للجهاز الأمني عينه بالوكالة اللواء إلياس البيسري للمهمة عينها أيضًا. ما يؤشر من دون أيّ لبس إلى أنّ الحكومة لا تزال تتعاطى مع هذا الخطر بخفّةٍ وعدم مسؤوليةٍ، مهما أطلق رئيسها وأعضاؤها الخطب الطنانة الرنانة، فالحل يبدأ بتفعيل العلاقات الثنائية بين البلدين، عبر حكومتيْهما ليس إلّا.

في المقابل، رغم كلّ هذه الخفة التي تبديها الحكومة حيال التواصل مع السلطات السورية، "لا تزال دمشق تنظر إلى لبنان نظرةٍ واقعيةٍ، انطلاقًا من حقيقة أوضاعه، لا سيمّا على المستوى السياسي الداخلي وعلاقاته الخارجية، ولكن فوق كل هذا، انطلاقاً من حقيقة التاريخ والجغرافيا والروابط العائلية والثقافية بين البلدين الشقيقين، التي تعلو إرادة البشر، فسوريا لا تتعامل مع لبنان على طريقة "المعاملة بالمثل" فحسب، بل تتفهم أوضاع جميع الدول العربية الشقيقة، والحركة الخجولة لبعض هذه الدول في مسار تفعيل العلاقات الثنائية مع دمشق"، بحسب ما يؤكد مرجع قيادي في العاصمة السورية. ويختم: "من دواعي الأسف أنّ سفراء الدول الأجنبية في لبنان، يتدخّلون في الشؤون الداخلية السيادية والسياسة الخارجية للجار الأقرب، ومن هذا المنطلق، تتفهم سوريا السياسات والمواقف اللبنانية، من مسألة تفعيل العلاقات الثنائية مع دمشق، فإذا لم يتفهّم الأخ أوضاع شقيقه، فستتفاقم المشكلات بينهما".