توحي المواقف والتطوّرات الجارية أنّ لبنان يقف على أبواب مرحلة جديدة من أزمته، تدلّ إليها تصرّفات القوى السياسية على اختلاف مشاربها، بما يبعث على الاعتقاد أنّ "الوطن الصغير" أمام احتمالين: إمّا انتخاب رئيس الجمهورية خلال الشهرين المقبلين وقبل انغماس إدارة الرئيس جو بايدن في الانتخابات الرئاسية المقرّرة في الثامن من تشرين الثاني المقبل. وإمّا بقاء الأزمة اللبنانية على ما هي واستمرار الفراغ في سدّة الرئاسة إلى ما بعد تلك الانتخابات.
ولا يخفى على أحد أنّ القوى السياسية اللبنانية منقسمة بين فريق يعتقد بإمكان فوز مرشّحه، ويستعجل انتخاب رئيس جديد في أيّ وقت وقبل الانتخابات الأميركية، سواء فاز فيها بايدن أو منافسه الرئيس السابق دونالد ترامب. وفريق آخر لا يرى غضاضة في حصولها بعد تلك الانتخابات ما دام غير قادر حالياً على النفاذ بمرشّحه، مراهناً على فوز ترامب الذي قد يكون أقرب إلى خياره الرئاسي. علماً أنّ المراهنين على فوز ترامب ليسوا في لبنان فقط بل في إسرائيل والمنطقة والعالم، والعلامة الفارقة هنا هي الرهان الروسي الذي يؤيّد عودة الرئيس الأميركي السابق الذي كان لموسكو دور ما في فوزه في رئاسته السابقة.
الخماسية منقسمة أو هاربة؟
ولكن إلى الآن، فإنّ أيّاً من الفريقين لم يمتلك بعد كلّ الأسباب التي تمكّنه من إيصال مرشحه، ولذلك فإنّ كلّاً منهما يراهن على بروز متغيّرات في مواقف العواصم المهتمّة بالشأن اللبناني، ولا سيما منها المجموعة الخماسية العربية ـ الدولية، والتي من شأنها أن تدعم خياراته الرئاسية وتمكّنه من النفاذ بمرشّحه. إلّا أنّ المشكلة تصبح أكثر تعقيداً أمام هذا الفريق أو ذاك عندما يكتشف أنّ هذه العواصم منقسمة على نفسها، أو على الأقلّ، لم تتفق في ما بينها بعد على خيار موحّد يمكن اجتذاب الفرقاء اللبنانيين إليه، وهاربة إلى الأمام بالحديث عن أنّ هذا الأمر هو شأن داخلي على اللبنانيين دون سواهم أن يقرّروه. ولكنّها تدرك ضمناً أنّهم لن يتمكّنوا من اتخاذ هذا القرار من دون تزكيتها، إن لم نقل تدخّلها، فهي تتدخّل الآن بكلّ شاردة وواردة من دون أن تعترف بذلك رسمياً.
وهذا الواقع هو ما يجعل السياسيين اللبنانيين مربكين، تغزوهم الشكوك إلى حدود الخوف من اندفاع تلك العواصم في لحظة سياسية ما إلى "كلمة سر ما" تفرض انتخاب مرشّح محدّد، كما حصل في استحقاقات سابقة تحت عنوان "لم يكن في الإمكان أفضل ممّا كان" الرئاسي، وأنّ انتخاب رئيس أياً كان يبقى أفضل من استمرار الفراغ.
وفي ضوء ذلك فوجئ كثيرون بزيارة الموفد الرئاسي الأميركي آموس هوكستين المفاجئة لإسرائيل، فيما كانت كلّ الاهتمامات منصبّة على الحراك الفرنسي والاستعداد لوصول وزير الخارجية ستيفان سيجورنيه إلى لبنان ضمن جولة ستحمله لاحقاً إلى الرياض وتل ابيب، ناقلاً نسخة معدّلة لما سمّي المبادرة الفرنسية حول تنفيذ القرار الدولي الرقم 1701 في الجنوب اللبناني، ومنع انزلاق المواجهات هناك إلى حرب واسعة تهدّد بها إسرائيل، ولم تترك أيّ موفد زار لبنان منذ تشرين الأول الماضي إلّا طلبت منه نقل تهديدها بهذه الحرب إلى المسؤولين اللبنانيين.
لكن الانطباع الذي تكوّن إثر الإعلان عن وجود هوكستين في إسرائيل كان أنّ الولايات المتحدة الأميركية أرادت من هذه الزيارة قطع الطريق أمام سيجورنيه، وتوجيه رسالة إلى فرنسا مختصرها "الأمر لي" في لبنان والمنطقة أولاً وأخيراً، وذلك في إشارة منها إلى أنّها لا تعير الحراك الفرنسي القديم ـ الجديد أيّ أهمية، وأنّ قرار الحلّ اللبناني كان وسيبقى في يدها دون سواها، مهما صال الفرنسيون وجالوا داخل المجموعة الخماسية العربية الدولية أو خارجها، فموفدهم جان ايف لودريان الذي زار واشنطن أخيراً عاد من لقاء مع هوكستين نفسه خالي الوفاض أو "بخفي حنين" حول ما يتعلق بمهمته اللبنانية، سواء بصفته موفداً لرئيسه أو للمجموعة الخماسية، الأمر الذي استدعى من الرئيس ايمانويل ماكرون تصعيد الحراك الديبلوماسي الفرنسي على الخط اللبناني ـ الإسرائيلي، فكان استقباله لرئيس الحكومة نجيب ميقاتي في قصر الاليزيه والذي شارك قائد الجيش العماد جوزف عون في جانب منه، إذ كان الأخير موجوداً هناك ملبياً دعوة قائد الجيش الفرنسي إلى لقاء بحث في سبل دعم الجيش اللبناني في حضور قائد الجيش الإيطالي.
وفي ضوء محادثات الإليزيه تقرّر إيفاد وزير الخارجية الفرنسي إلى بيروت حاملاً الورقة الفرنسية لتنفيذ القرار 1701 معدّلة بعدما رفض لبنان نسختها الأولى التي وجد فيها انحيازاً لإسرائيل، ولا تلبّي طلب تحرير ما تبقى من أراضيه من النقطة B1 في الناقورة صعوداً إلى تلال كفرشوبا ومزارع شبعا، مروراً بالنقاط الـ 13 التي تعتدي إسرائيل فيها على حدود لبنان، إلى جانب الجزء الشمالي من بلدة الغجر الحدودية والذي يطالب لبنان بالانسحاب الإسرائيلي منه.
وقد سبق وصول هوكستين إلى إسرائيل وتلاه كلام مفاده أنّ الإدارة الأميركية تستعجل إنجاز الاستحقاق الرئاسي اللبناني قبل تموز أو آب المقبلين، إذ يبدأ العد العكسي للانتخابات الرئاسية الأميركية، ما يجعل البيت الأبيض عاجزاً عن التعاطي بأيّ شأن آخر لبناني أو إقليمي أو دولي. كذلك سبقت وصول هوكستين وتلته معلومات وردت إلى مراجع لبنانية رسمية وسياسية، مفادها أنّ الإدارة الأميركية، على عكس الإدارة الفرنسية، لا تطرح في إطار مهمّة موفدها هوكستين في شأن تنفيذ القرار 1701، انسحاب المقاومة (أي حزب الله) من منطقة جنوب الليطاني، الأمر الذي فسّره البعض بأنّ واشنطن راغبة جدياً في إيجاد حلّ قريب للاستحقاق الرئاسي اللبناني، وللوضع على حدود لبنان الجنوبية قبل الانتخابات الأميركية. وهو ما عهدت إلى موفدها هوكستين به، لأنّ إنجازاً من هذا النوع ربما يعزّز الرصيد الانتخابي للرئيس جو بايدن، علماً أنّ واشنطن كانت كلّفت هوكستين هذه "المهمة الموسّعة" من الحدود إلى الرئاسة في زيارته الثانية للبنان بعد ترسيم الحدود البحرية، حيث أنّه منذ ذلك الحين على تواصل دائم مع المسؤولين ولا سيما منهم رئيس مجلس النواب نبيه بري وميقاتي، عاملاً على إيجاد "حلّ متكامل" للأزمة اللبنانية يزاوج فيها بين الحدود البرية جنوباً والأزمة السياسية الداخلية وعلى رأسها انتخاب رئيس جمهورية جديد.
تهديدات ما تزال تهديدات
على أنّه بين هوكستين وسيجورنيه وقبلهما تعرّض لبنان، ولا يزال، لسيل من التهديدات الإسرائيلية بحرب توشك تل أبيب أن تشنّها ضده، بذريعة أنّها تريد ضمان عودة نحو مئة ألف مستوطن إلى منازلهم في المستوطنات الشمالية التي هجروها نتيجة الحرب على الحدود مع لبنان، لكن هذه التهديدات لم تأخذ بعد طريقها إلى التنفيذ، بدليل أنّ اسرائيل تقصف أحياناً العمق اللبناني، فيردّ حزب الله عليها بقصف مواقع عسكرية إستراتيجية، فتستوعب من جهتها الرد، ولا تبادر إلى شنّ الحرب الواسعة التي تهدّد بها، لأنّها تخشى من أن تكون مغامرة غير محسوبة العواقب نظراً إلى ما يمكن أن يكون لدى حزب الله من مفاجآت فيها، لأنّه لم يستخدم حتّى الآن بعد أي سلاح إستراتيجي أو حتّى نوعي مما كان يلوّح بإمكان استخدامه، ولا يزال.
ولكن الواضح لدى كثيرين أنّ ارتفاع وتيرة التحذيرات الديبلوماسية للبنان من أنّ إسرائيل على وشك شنّ حرب ضده لا يعكس حقيقة موقفها، لأنّ الواضح أنّ المراد من هذه التحذيرات هو ممارسة ضغوط على حزب الله لكي يوقف حرب الاستنزاف ضدها، لتتفرّغ لاجتياح منطقة رفح لإعلان "انتصار" تبحث عنه من أجل تغطية فشلها في إنهاء حركة حماس وأخواتها، فهي تظنّ أنّها باجتياح رفح تطبق على قطاع غزة، ولكن يبدو أنّ هذا الاجتياح قد لا يحصل قبل نهاية السنة، لأنّ خطة رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو كانت، ولا تزال، إطالة أمد حربه على القطاع إلى ما بعد الانتخابات الرئاسية الأميركية، لأنه يتوقع أن يفوز فيها صديقه ترامب، لكي يستأنفا معاً بعد ذلك "صفقة القرن" التي تنهي القضية الفلسطينية وتقيم على أنقاضها "الدولة اليهودية الخالصة" على أرض فلسطين التاريخية.
بين هوكستين وسيجورنيه وقبلهما تعرّض لبنان، ولا يزال، لسيل من التهديدات الإسرائيلية بحرب توشك تل أبيب أن تشنّها ضده
"لقاء معراب": رفع صوت أم تحذير؟
وفي خضم كلّ هذه المعطيات والتطورات، كان اللافت "لقاء معراب" الأخير الذي جمع كلّ أطياف المعارضة على وقع وجود هوكستين في إسرائيل، وقبيل ساعات من وصول سيجورنيه إلى بيروت، وقد حمل ثلاثة تفسيرات:
ـ الأول، أنّ المعارضة أرادت رفع الصوت في وجه حلفائها قبل الخصوم بغية إسماع وجهة نظرها سواء حول الوضع في الجنوب أو بالنسبة إلى الاستحقاق الرئاسي، وخصوصاً في ضوء الضبابية التي تلف مواقف أطراف المجموعة الخماسية، بحيث تبدو هذه المواقف موحدة ظاهرياً، لكنها على عكس ذلك ضمنياً، بدليل الموقفين الأميركي والفرنسي المتناقضين، حتّى لا نقول المتعارضين، على الأقلّ.
ـ الثاني، شعور الفريق المعارض بأنّ ثمّة تسوية ما على وشك الإنجاز بين الكبار، سواء بالنسبة إلى القرار 1701 في الجنوب، أو بالنسبة إلى الاستحقاق الرئاسي، ولا تأخذ بكلّ مطالبه، وتلبّي مطالب الفريق الآخر، أو بعضها على الأقلّ، بتنفيذ متوازن للقرار الدولي وانتخاب رئيس للجمهورية يطمئنه.
ـ ثالثاً، توافر معطيات جدية لدى الفريق المعارض عن أنّ اسرائيل عازمة فعلياً على خوض حرب تدميرية ضد لبنان، وأنّ مطالبته الحكومة بالمسارعة إلى تطبيق القرار 1701 ونشر الجيش في منطقة جنوب الليطاني ونزع السلاح غير الشرعي، هي من باب التنبيه إلى وجوب العمل لإبطال الذريعة الإسرائيلية لشنّ الحرب، وذلك على قاعدة "اللهمّ أشهد أنّي قد بلّغت".
"الاعتدال" ينعى مبادرته
في هذه الغضون، ومع إنجاز سفراء المجموعة الخماسية جولتهم على المسؤولين والكتل النيابية والسياسية من دون تحديد الخطوات اللاحقة في أن تنعقد طاولة تشاور أو حوار تمهّد لجلسة أو جلسات انتخابية مفتوحة لانتخاب رئيس للجمهورية، انبرى تكتّل "الاعتدال الوطني" إلى نعي مبادرته الرئاسية على لسان أحد أعضائه وليد البعريني عندما قال لإذاعة "لبنان الحر" السبت الماضي "رأيي الشخصي أنّه لن يكون هناك رئيس قبل 2026 ولن يأتي رئيس إلّا بتسوية خارجية". لكنّه اعتبر أنّ "لدينا شهرين مفصليين إن على صعيد غزة ورفح أو على صعيد الجنوب والعراق وإيران واليمن، فهناك شيء يطبخ، وإذا لم ينته قريباً، فسندخل في دوامة طويلة ونفق مظلم".
وكان كافياً لاعلان موت مبادرة التكتل ما قاله قبله عضو التكتل النائب أحمد رستم من أنّ "الخلاف ما زال قائماً حول بندين من بنود المبادرة هما من يدعو إلى جلسة التشاور أو الحوار النيابية ومن يرأسها".
ففي حين أن المعارضة أبلغت إلى التكتل أنّها ترفض صدور الدعوة إلى جلسة "الحوار" أو "التشاور" عن أمانة سر المجلس النيابي، وأن يترأسها بري ، أبلغ رئيس "التيارالوطني الحر" النائب جبران باسيل إليه في المقابل "أننا مع المبادرة شكلاً ومضموناً على أن يسفر الحوار عن توافق حول اسم مرشح للرئاسة أو أكثر، ثمّ نذهب إلى جلسات انتخابية وليفز من يفز". ما يعني أنّ باسيل لا مشكلة لديه في أن يترأس بري هذا الحوار أو التشاور مثلما تريد كتلتا "التنمية والتحرير" و"الوفاء للمقاومة" وبقية الكتل الحليفة لهما. لكن في المحصلة لن يحصل الحوار إذا أصرّ الجميع على مواقفهم، وبالتالي تكون مبادرة تكتل الاعتدال قد انتهت، إلّا أنّه سيحاول الاستعانة بمجموعة سفراء الخماسية لتساعده على تذليل هاتين العقدتين، لكن حتى إشعار آخر، يبقى احتمال النجاح ضعيفاً...