ربما يكاد النزوح السوري يكون الملفّ الوحيد الذي يُجمع اللبنانيون على خطورته وضرورة علاجه، وإن اختلفوا على طبيعة الخطر - بين آني ووجودي - والسبل الأنجع لمعالجته. تتداخل في هذا الملف حسابات ومصالح، وتعقيدات محلية وإقليمية ودولية. قد يعتبر بعضهم أنّ الأمر لا يوصّف بالنزوح لأنّه ليس داخل البلد الواحد، لكنّ الأكيد أنّه ليس بلجوء لأنّ لبنان، بحسب القانون الدولي، بلد عبور لا بلد لجوء، وهو لم يوقّع على اتفاقية اللّاجئين عام 1951. لذا، وإن استخدمنا مصطلح "النزوح"، فالأصح هو "الوجود" في انتظار العبور. 

الثابت أنّ مقاربة ملفّ النزوح السوري، لبنانياً، كانت فاشلة لألف سبب وسبب، إذ أُقحم في زواريب الصراعات اللبنانية الداخلية وامتداداتها الخارجية. لكن يبقى السبب الأول لهذا الفشل هو عدم وجود دولة - بكلّ ما للكلمة من معنى - تجرؤ على فرض مصلحتها الوطنية فوق كل اعتبار ولا تتعاطى باستخفاف مع القضية أو باستسلام أمام "أجندات" بعض الأطراف فيها. 

لذا، في ظلّ ما نشهده اليوم من تقاذف للمسؤولية عن هذه المقاربة الفاشلة، ومن محاولات بعضهم تسجيل نقاط على البعض الآخر عبر تحريف الوقائع وتزوير الحقائق، فلنعد إلى لحظة 15 -3-2011 في لبنان لمعرفة ما حال دون مقاربة إنسانية وسيادية في آن واحد، كما فعل الأردن وتركيا، حيث لم يقفلا الباب في وجه أناس هاربين من شبح الموت (كما طالب "التيار الوطني الحر" ورئيسه النائب جبران باسيل) وفق ما تنصّ عليه القوانين الدولية والأخلاق الانسانية ونجحا في ضبط هذا النزوح وتنظيمه. 

النزوح السوري بدأ عملياً مع تحوّل الثورة السلمية إلى حرب دموية بعد أشهر من انطلاقتها، وكان لبنان يومذاك يعيش مفاعيل الانقلاب السياسي على اتفاق الدوحة، والذي نفّذه تحالف "الثنائي" "حزب الله" و"أمل" مع "التيار الوطني الحر" عبر "One way ticket" قطعها لرئيس الحكومة سعد الحريري وهو يدخل إلى البيت الأبيض. انقلاب عبر "عراضة القمصان السود" أفضى إلى ترويض الزعيم الاشتراكي وليد جنبلاط وتشكيل حكومة الرئيس نجيب ميقاتي الثانية في 13 -6-2011 التي استمرت حتى 15-2-2014. غالبية موجات هذا النزوح تمتّ في ظل هذه الحكومة وخليفتها حكومة الرئيس تمام سلام التي استمرت حتى 18-12-2016. 

على لبنان من أجل الانتقال من المقاربة الفاشلة الى مقاربة ناجحة، أن يأخذ في الاعتبار تلكؤ الأسد عن تأمين عودة مواطنيه إلى بلادهم وتلكؤ المجتمع الدولي عن الضغط لعودتهم

من هنا، وفي إطار الحملة التي يشنّها "التيار" على "القوات اللبنانية" – غريمها الأساسي في الساحة المسيحية - بهدف التملّص من أيّ مسؤولية عن المعالجة الفاشلة لملفّ النزوح، وتحميلها مسؤولية ذلك عبر الادعاء أنّها أيّدت النزوح ورفضت التصدي له، يمكننا التوقف عند الآتي: 

* "التيار" كان شريكاً رئيسياً ويمتلك "حصة الأسد" في حكومتي ميقاتي وسلام اللتين تتحمّلان المسؤولية الأساسية عن معالجة هذا الملف فيما "القوات" كانت خارجهما. 

* "التيار" هو من كان في حكومة ميقاتي التي اتخذت في 18-7-2011 قراراً بشأن تقديم المساعدة إلى النازحين السوريين صدر في الجريدة الرسمية، وليس "القوات". 

* "التيار" يدّعي رفض النزوح السوري منذ اليوم الأول ونسي مواقف لمسؤوليه كتلك التي أطلقها وزيره إلياس بو صعب خلال استقباله سفير سوريا علي عبد الكريم علي في 15-5-2014: "كما استقبلتنا سوريا في الأزمات التي مررنا بها، فمن الواجب علينا استقبال النازحين وفتح أبوابنا لهم". 

* "التيار" حاول الاستفادة من ادعاء رفض النزوح للاستثمار في النقمة التاريخية للمسيحيين ضد سوريا ونظامها، أمّا عملياً فلم يقدم على أيّ خطوة لمنع ذلك رغم امتلاكه الثلث المعطّل في حكومة ميقاتي. فيما "القوات" التي رفضت عدم استقبال السوريين الهاربين من الموت، سارعت إلى الدعوة الى المواءمة بين ما تنصّ عليه القوانين الدولية والأخلاق الإنسانية في هذا الصدد، وبين المصلحة الوطنية وصون السيادة واستتباب الاستقرار. لذا شدّد رئيسها سمير جعجع منذ استقباله سفيرة الاتّحاد الأوروبي أنجيلينا ايخهورست في 30 -7-2013 على "عدم قدرة لبنان على التحمّل أكثر إذ يجب إيجاد حلّ ناجع لهذه المعضلة"، مؤكّداً أنّ "الحل الوحيد يقتضي إقامة مناطق آمنة داخل الحدود السورية بحماية دولية". 

* لم تضبط الحكومات الحدود مع سوريا وتغلق المعابر غير الشرعية لوقف فوضى النزوح وتركتها مشرّعة أمام سوريين وأمام حركة مقاتلي "حزب الله" وسلاحه. يوم طالبت "القوات" والقوى السيادية بنشر "قوات دولية" لمؤازرة الجيش اللبناني في ضبطها، رفض الأمين العام لـ"الحزب" السيد حسن نصرالله ذلك مهدّداً ومتوعّداً فيما لم يؤيّد "التيار" هذا الطرح العملي لضبط الحدود "كرمى لورقة مار مخايل". 

* في 10-8-2013، قال العماد ميشال عون: "في موضوع النازحين، القوى الأمنية لم تقم بشيء، وعلى رأسها مجلس الدفاع الأعلى، من هنا أتّهمها اتهاماً فعلياً بالتقصير وليس سياسياً. هناك إهمال في تسجيل عدد النازحين من وزارتي الداخلية والدفاع والمجلس الأعلى للدفاع المسؤول عن الأمن". طوال 6 سنوات، كان فيها عون بصفة كونه رئيساً للجمهورية رئيساً لمجلس الدفاع الأعلى، فماذا فعل؟ ألا يحق لنا بناء على كلامه أن نتّهمه اتهاماً فعلياً بالتقصير؟

* توقّفت المفوضية العليا للاجئين التابعة للأمم المتحدة UNHCR عن تسجيل السوريين كلاجئين بناءً على طلب من الحكومة اللبنانية منذ مطلع العام 2015، وفق ما أعلنت ممثلة المفوضية في لبنان ميراي جيرار. يحاول إعلام "التيار" إلصاق هذا القرار بالوزير بيار بو عاصي الذي لم يكن حينذاك وزيراً. فهل "القوات" مسؤولة عن قرار حكومة لم تشارك فيها أم "التيار" الذي هو الطرف الأساسي فيها؟

* أليس وزير الخارجية جبران باسيل هو الذي طالب مراراً المفوضية "بالتوقّف عن تسجيل الأطفال السوريين الذين يولدون في لبنان"، وهذا ما استدعى اشتباكاً كلامياً في تموز 2015 مع وزير الشؤون الاجتماعية رشيد درباس الذي أعلن أنّ "تسجيل المواليد السوريين الجدد لدى مفوضية اللاجئين لن يتوقّف، وأيّ طلب في هذا الصدد هو من مسؤولية وزارة الشؤون الاجتماعية وليس وزارة الخارجية".

* قال درباس "لا قاعدة بيانات وطنية للوجود السوري عند الحكومة اللبنانية"، فمن كان في الحكومات المتعاقبة "التيار" أم "القوات"؟

* اعتبر باسيل أن ما يحصل من تسجيل للولادات "هو بداية عملية لفرض واقع توطيني جديد"، ولكن ألا يفتح عدم التسجيل الباب أمام تسجيلهم مكتومي القيد ما يدفع إلى منحهم الجنسية لاحقاً؟

* ألم يجنّس الرئيس عون عدداً من السوريين – وبعضهم من المطلوبين – بموجب أكثر من مرسوم في عهده؟ فهل يحق لتياره اتهام الآخرين بالسعي إلى توطين السوريين؟

* مقارنة بسيطة بين وزارات الطرفين، ماذا فعل "التيار" في وزارة الخارجية الممسك بها طوال هذه الفترة غير المطالبة بعودة بشار الأسد إلى جامعة الدول العربية وما شابه؟ لماذا لم يقدم بحكم سيطرته على "وزارة الطاقة" على إلزام مخيمات النزوح بتسديد الفواتير، واليوم تذكّر تركيب العدادات لها؟ عند حصوله على حقيبة الدفاع، لماذا لم يوفر القرار السياسي للجيش من أجل ضبط الحدود، وقد أعلن وزيره إلياس بو صعب جهاراً عن عدم توفّر القرار السياسي؟ في المقابل، يسجّل لـ"القوات" أنّها الوحيدة التي أقدمت على خطوة عملية للتصدي للفوضى في ملف النزوح عبر وزيرها في حقيبة العمل كميل أبو سليمان الذي نظّم حملة لتطبيق القانون ومكافحة العمالة غير الشرعية. كما يسجّل أنّ وزيرها في الشؤون الاجتماعية بيار بو عاصي تجرّأ على وقف برنامج لمسح السوريين متخم بالزبائنية في التوظيفات وصرف مئات العمال فيه عشية الانتخابات النيابية، لأنّ تمويله الخارجي انتهى وأصبح عبئاً على جيوب اللبنانيين، عدا أنّه من دون جدوى إذ إنّ المسح وفق الآلية المعتمدة غير مجدٍ وبطيء مقارنة بوتيرة النزوح والولادات. طرحت "القوات" عبر وزيرها ريشار قيومجيان مبادرة لإعادة النازحين في 2-3-2019 ولم توضع على جدول أعمال مجلس الوزراء، فأين كان "التيار" من دعم هذه المبادرة والعماد ميشال عون بحكم كونه رئيساً للجمهورية هو شريك بوضع جدول الأعمال؟ أو لماذا لم يطرحها من خارج الجدول كما طرح التمديد لحاكم مصرف لبنان رياض سلامة؟

في خضم المناكفات حول النزوح، سهونا عن أنّ بشار الأسد وحلفاءه في لبنان كانوا يشترطون "تطبيع" لبنان مع النظام المعزول يومذاك لبدء الحديث في ملف النزوح. فالأسد يسعى عبر هذا الملف إلى "التطبيع وأخواته" كالاستفادة الاقتصادية من الدولارات التي تتدفق إلى سوريا، أو كاعتباره ورقة ضغط لتثبيت بقائه في السلطة أو للمقايضة مع تمويل إعمار سوريا أو ورقة أمنية يمكن تحريكها في الداخل اللبناني. 

لذا على لبنان من أجل الانتقال من المقاربة الفاشلة الى مقاربة ناجحة، أن يأخذ في الاعتبار تلكؤ الأسد عن تأمين عودة مواطنيه إلى بلادهم وتلكؤ المجتمع الدولي عن الضغط لعودتهم أو تأمين بلدان للجوئهم إليها، وأن يأخذ خطواته من منطلق سيادي غير منتظر ترحيب الأسد بعودة مواطنيه أو دعم المجتمع الدولي لخطوة العودة. فأياً كانت عواقب خطوات كهذه تبقى أقلّ ضراراً من بقاء النازحين في لبنان.