على وقع التطورات الأخيرة والتصعيد الذي شهدته المنطقة، أعادت اللجنة الخماسية العربية الدولية الخاصة بلبنان تشغيل مطبخها السياسي لتحضير الطبخة الرئاسية اللبنانية التي "شاطت" بين أيديها مرّات عدة نتيجة الاقتراحات المتناقضة في شأنها بين الفرقاء المعنيين الداخليين منهم والخارجيين، وسيكون الأسبوع الطالع "كشّاف الأخبار" حول مصير الاستحقاق الرئاسي بعدما كان الأسبوع الماضي "جمّاعاً ومطّاراً (أخذاً في المقولة القروية اللبنانية أيام الشتاء: "الجمعة جمّاعة والسبت مطّار والأحد كشّاف الخبار) بما شهده من لقاءات بين سفراء الخماسية وفرقاء سياسيين استجمعوا خلالها مزيداً من "لوازم الطبخة الرئاسية" التي سيحملونها إلى لقائهم مع رئيس مجلس النواب نبيه بري، ليقرروا وإياه الخطوات العملية في اتجاه عقد الجلسة أو الجلسة الانتخابية المفتوحة بدورات متتالية إلى أن يتمّ انتخاب رئيس الجمهورية الموعود.

مناقشات انقضاضية

وحسب أحد الذين التقوا السفراء "الخماسيين" فإنّ حركتهم "ما تزال بلا بركة" وأنّه لم ترقَ النقاشات خلالها إلى مستوى "النقاشات المسيّرة الانقضاضية" في اتجاه فرض انتخاب الرئيس الجديد، الذي يشكّل المعبر الإلزامي إلى حلّ الأزمة اللبنانية. فالخماسية من جهة توحي أنّها تضغط وتدفع بقوة في اتجاه تمكين الفرقاء اللبنانيين من الاتفاق على انتخاب رئيس، لكنّها من جهة أخرى ومن خلال لقاءاتها مع هؤلاء "لا تضغط عليهم ولا تدفعهم"، وإنّما تقول لهم إنّ انتخاب الرئيس هو على همتكم كلبنانيين، وإنّها لا يمكنها أن تختاره لهم. وفي هذا السياق تؤكد لهم أيضاً أنّها لا تضع "فيتو" على أي مرشح، وهي بالتالي ستدعم من سيقع الخيار عليه في النهاية.

على أنّ هذه الخماسية في الوقت الذي توحي أنّها "على قلب رجل واحد"، وأنّها موحّدة الموقف، لم تكن موحّدة في زياراتها للمسؤولين والكتل النيابية والسياسية، فبعض دولها ما تزال غير عابرة لموقفها السلبي من هذا الفريق اللبناني أو ذاك، وقد ترجمت ذلك في امتناع سفرائها عن مشاركة بقية نظرائهم زيارتهم هذه الكتلة أو تلك. فعندما زاروا رئيس تيار "المردة" سليمان فرنجية في بنشعي كانت الزيارة رباعية لغياب السفير السعودي وليد البخاري عنها بداع صحي. ثم كانت "رباعية" أيضا في اللقاء مع رئيس "التيار الوطني الحر" النائب جبران باسيل نتيجة غياب السفيرة الأميركية ليزا جونسون عنه، بعد أن شاركت في اللقاء مع فرنجية. ثم تحوّلت الخماسية "ثلاثية" عندما زارت كتلة "الوفاء للمقاومة" برئاسة النائب محمد رعد إذ غاب عنها البخاري وجونسون، ليقتصر الحضور فيها على ثلاثي فرنسا ومصر وقطر.

وبدا واضحاً في الجولة الأخيرة أنّ هدف سفراء الخماسية كان الوقوف على حقيقة مواقف كلّ من "التيار الوطني الحر" و"حزب الله" وتيار "المردة"، فتبين لهم أنّ مواقف هؤلاء من الاستحقاق الرئاسي لم تتغير. فباسيل اعتبر أنّ عدم تدخل الخماسية في اختيار الرئيس "بداية جيدة"، ولم يتم البحث معه في أسماء. ولكن باسيل اقترح على الخماسية أن تساعد لبنان باشتراطها على الفرقاء السياسيين إجراء الإصلاحات المطلوبة بنيوياً قبل البحث في انتخاب الرئيس، وذلك عبر الضغط على الحكومة ومجلس النواب لهذه الغرض. وأبلغ باسيل إلى الخماسية أنه يشترط أن ينطلق الحوار المطلوب من اتفاق مكتوب يقضي بأن يكون "محدوداً في الزمان ومحصوراً برئاسة الجمهورية" بحيث أنّه إذا تمّ التوافق على مرشح ينعقد مجلس النواب وينتخبه فوراً، وإذا لم يتمّ التوافق على اسم على الخماسية عندها ضمان انعقاد مجلس النواب بأكثرية الثلثين الدستورية لانتخاب رئيس بالمنافسة الديموقراطية. وأكّد باسيل أنّ طرحه هذا الشرط هو لمنع صيرورة طاولة الحوار عِرفاً يتحوّل مع مرور الوقت بديلاً من دورَيْ رئيس الجمهورية والحكومة".

أمّا فرنجية فما لم يفصح عنه بعد لقائه مع الخماسية ـ الرباعية في بنشعي قاله في اليوم التالي عندما زار البطريرك الماروني مار بشارة بطرس الراعي في بكركي، إذ قال: "كلّنا نتمنى انتخاب الرئيس اليوم قبل الغد ولكن التمنيات شيء والواقع أمر آخر، ولا أرى أنّ ترشيحي يضرب العملية الديموقراطية في انتخاب الرئيس، بل يكرّسها ونحن غير مستعدّين لإلغاء أنفسنا". واعتبر أنّ غياب السفير السعودي عن الاجتماع معه "كان بعذر مرضي، وهذا حقه وبيتنا مفتوح وخصوصاً أمام المملكة العربية السعودية وعندما يأتي يحلّ في بيته". وعندما سئل عن إمكان تخلّي بري عن دعم ترشيحه، أجاب:"هناك ثقة بيني وبين حلفائي بعكس البعض الذي يحلّل حسب علاقته هو بحلفائه".

أمّا حزب الله الذي استنتج من اللقاء أن ليس لدى الخماسية، بعدُ، خريطة طريق في شأن الاستحقاق الرئاسي، وأنّها ما تزال في طور استجماع الآراء تمهيداً لطرح مقاربة معيّنة لحوار أو تشاور سيُطرح لاحقاً بعد اجتماعها مع رئيس مجلس النواب، إذ كان بري أبلغ إليها في لقاءات سابقة أنّه في ضوء الحوار أو التشاور أو التفاهم الذي يتم الاتفاق عليه سيكون مستعداً للدعوة إلى جلسة انتخابية بدورات عدة، حتى إذا لم تنته بانتخاب رئيس، يرفعها ليدعو لاحقاً إلى جلسة جديدة مماثلة.

وأبلغ رعد إلى سفراء مصر وفرنسا وقطر بحضور أعضاء كتلة "الوفاء للمقاومة" أنّ الحزب يرى أنّ "المخرج المتاح لإنجاز الاستحقاق الرئاسي يتمثّل بحوار فتوافق". وقال: "إنّ لدينا مرشحاً (قاصداً فرنجية من دون أن يسمّيه) نلتزم دعمه، ولكننا في الوقت نفسه منفتحون على حوار موضوعي ومنطقي مع الفرقاء الآخرين بلا شروط مسبقة، على أن يترأس هذا الحوار رئيس مجلس النواب". وقد ردّ السفراء على أنّ المجموعة الخماسية تحضّ الفرقاء اللبنانيين بقوة على ضرورة الإسراع في انتخاب رئيس الجمهورية حرصاً على استقرار لبنان ومصالحه في ظلّ الظروف المعقدة التي تمرّ بها المنطقة.

الحزب يرى أنّ "المخرج المتاح لإنجاز الاستحقاق الرئاسي يتمثّل بحوار فتوافق"

خلوة الاليزيه

على أن ما استوقف المراقبين، ومن ضمنهم الخماسية، كان استقبال الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون رئيس الحكومة نجيب ميقاتي وقائد الجيش العماد جوزف عون في قصر الاليزيه. من دون إغفال الاتصال الهاتفي الذي أجراه الرئيس الفرنسي بالرئيس بري الذي تلقى إتصالاً مماثلاً من ميقاتي. وهذا اللقاء جاء إثر عودة الموفد الرئاسي الفرنسي (وموفد المجموعة الخماسية أيضاً) جان ايف لودريان من زيارة لواشنطن، وكان بين من التقاهم هناك الموفد الرئاسي الأميركي آموس هوكستين، وقد شاع أنّ الرجلين لم يتناولا بالبحث خلال لقائهما ملف الرئاسة اللبنانية الذي يعملان عليه أصلاً كونهما مكلّفين رئاسياً "مهمات لبنانية". وتردّد أنّ لودريان سيزور واشنطن مجدّداً قريباً، وهذا يعني أنّ زيارته المنتظرة للبنان لم يحدّد موعدها بعد.

وعن مدى ارتباط لقاء الإليزيه بالاستحقاقات اللبنانية ومهمة المجموعة الخماسية، يقول مطّلعون إنّه، وإن كان وجود ميقاتي في باريس يتعلّق ظاهرياً بالبحث في ما يمكن تقديمه من دعم للجيش اللبناني فإنّ باريس تستطيع أن تستفيد من هذا اللقاء ووجود عون (كمرشّح جدي منافس لفرنجية على رئاسة الجمهورية) في باريس للإيحاء أنّه يرتبط بالاستحقاق الرئاسي، ولكنها في الوقت نفسه في إمكانها تبرير حضور قائد الجيش اللبناني هذه اللقاءات الباريسية بأنّه ضروري لأنّها تتناول في جانب منها دعم الجيش اللبناني، خصوصاً أنّ عون موجود في باريس تلبية لدعوة قائد الجيوش الفرنسية الجنرال تييري بوركهارد.

لكنّ المواقف التي أعلنها كلّ من ماكرون وميقاتي في الاليزيه دلّت إلى أنّ الملف اللبناني طرح بكلّ تفاصيله على بساط البحث بين الجانبين في الإليزيه، من الاستحقاق الرئاسي إلى تنفيذ القرار الدولي 1701 الذي تعمل عليه واشنطن من خلال مهمة موفدها هوكستين، ووزيرة الخارجية الفرنسية السابقة كاترين كولونا التي طرحت مبادرة في شأنه خلال زيارتها للبنان في شباط الماضي، وصولاً إلى دعم الجيش اللبناني المطلوب منه الانتشار بعديد وعتاد مناسبين في المنطقة الحدودية عند تنفيذ القرار 1701. وقد عدّ المسؤولون اللبنانيون المبادرة الفرنسية عند طرحها بأنّها "منحازة وتتوخى تأمين الحماية لأمن إسرائيل ولا تأخذ في الاعتبار الخروقات الإسرائيلية المتمادية للقرار 1701 منذ صدوره، وكذلك لا تأخذ في الاعتبار الاعتداءات الإسرائيلية على الحدود اللبنانية في 13 نقطة ووجوب انسحاب إسرائيل من مزارع شبعا وتلال كفرشوبا وخراج بلدة الماري المحتلة".

وقد انعقدت خلوة لساعة بين ماكرون وميقاتي قبل أن ينتقلا إلى غداء عمل ضمّ عن الجانب اللبناني العماد عون، والمستشار الديبلوماسي لميقاتي السفير بطرس عساكر. وعن الجانب الفرنسي رئيس أركان الجيوش الفرنسية الجنرال تييري بوركهارد، وأعضاء خلية الإليزيه الخاصة بالأزمة اللبنانية: سفير فرنسا في لبنان هيرفيه ماغرو، مستشار الرئيس الفرنسي ايمانويل بون، مستشارة الرئيس الفرنسي لشؤون الشرق الأوسط آن كلير ليجاندر، الموفد الرئاسي الفرنسي جان ايف لودريان، مديرة إدارة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا في وزارة الخارجية الفرنسية السفيرة آن غريو (سفيرة فرنسا السابقة في لبنان).

وقد جدّد ماكرون خلال خلوته مع ميقاتي تأكيد المبادرة الفرنسية في شأن تنفيذ القرار 1701، والتي أُدخلت عليها "تعديلات تأخذ في الاعتبار الواقع الراهن والمستجدات". وشدّد على "أولوية انتخاب رئيس جديد للبلاد والإفادة في هذا الإطار من الدعم الدولي والموقف الموحّد للخماسية الدولية لإتمام هذا الاستحقاق". مؤكّداً أنّ "فرنسا تدعم ما يتوافق اللبنانيون عليه وليس لديها أيّ مرشّح محدّد"، مشيراً إلى "توافق الجانبين الفرنسي والأميركي على مقاربة الحلول المقترحة".

أمّا ميقاتي فقد أكّد في الملف الرئاسي "أنّ مدخل الحل للأزمات في لبنان هو في انتخاب رئيس جديد لاكتمال عقد المؤسسات الدستورية والبدء بتنفيذ الإصلاحات الضرورية". وشكر لماكرون "الجهود التي يبذلها باستمرار لوقف العدوان الإسرائيلي على لبنان، ودعم الجيش بالعتاد والخبرات لتمكينه من تنفيذ مهامه كاملة". وشرح له "المخاطر المترتّبة على لبنان نتيجة الأعداد الهائلة للنازحين". متمنياً عليه "أن يطرح على الاتحاد الأوروبي الإعلان عن مناطق آمنة في سوريا بما يسهّل إعادة النازحين إلى بلادهم، ودعمهم دولياً وأوروبيا هناك وليس في لبنان".

وعلى رغم من كلّ هذه التطورات والمعطيات فإنّ المؤشرات بدأت تدلّ إلى أنّ الحلّ اللبناني ينتظر أمرين، أحدهما يتقدّم على الآخر ويسهّله: الأول، توقّف الحرب الإسرائيلية على غزة وتالياً على الجبهة الجنوبية اللبنانية. والثاني مجيء هوكستين إلى لبنان لاستئناف مهمّته الحدودية ـ السياسية حتى لا نقول رئاسية، وهو كان اتفق مع رئيس مجلس النواب نبيه بري على أنّه سيعود إلى لبنان لحظة حصول اتفاق على وقف لإطلاق النار في غزة. ولذلك باتت القصة "أولها خاموس (جهود الخماسية معطوفة على جهود آموس) وآخرها هوكستين (الذي سيتظهّر الحلّ من خلال مهمّته)".