بعد عاصفة القراءات والتحليلات للردّ الإيراني الصاروخي والمسيَّر على إسرائيل، ومع الترقّب الإقليمي والدولي لطبيعة الرد الإسرائيلي المحتمَل أو المفترَض وما سيعقبه، لا بدّ من الإضاءة على جانب جرى إغفاله عمداً أو سهواً، مع أنه طبَع المواجهة النارية ولم يعُد غامضاً أو مستوراً.

هناك مشترَكات حديثة ثلاثة، على الأقل، في هذه المواجهة بين العدوَّين الحميمَين القديمَين اللذَين جمعهما التاريخ السحيق (قبل حوالى ٣ ألفيّات) في صداقة مصير وتحالف وجودي، منذ سبي اليهود من أورشليم إلى بابل وعهد قورش الفارسي الذي أرجعهم إلى فلسطين، وصولاً إلى عهد "الجمهورية الإسلامية" الراهنة التي استعانت بالصواريخ الإسرائيلية والأميركية قبل 40 سنة لصدّ هجمات صدّام حسين (نبوخذ نصّر الجديد).

المشترَك الأوّل في المواجهة الراهنة يكمن في الأسلوب أو الإخراج، فالطرفان يعتمدان الحرب النفسية والتحشيد الإعلامي ولعبة الوقت للضغط المعنوي، بما يعتبرانِه أعلى من خطورة العمل العسكري نفسه، وأكثر مردوداً في الاستثمار السياسي. وقد كانت إيران سبّاقة في اعتماد ثقل الانتظار لمدة 11 يوماً قبل تنفيذ ردّها الصوتي الاحتفالي على تدمير قنصليتها في دمشق في 2 نيسان الراهن. ولم تكتم أسلوبها هذا، بل أعلنت على لسان اللواء يحيى رحيم صفوي المستشار الاستراتيجي للمرشد خامنئي، قبل 3 أيام من إطلاقها صليات الصواريخ والمسيّرات، أن "الحرب النفسية والسياسية والإعلامية على الصهاينة أشد رعباً من الحرب نفسها".

وبالفعل، لم تُحدِث مئات المقذوفات الإيرانية "في الحرب نفسها" حالة هلع لدى الإسرائيليين المطمئنّين سلفاً إلى اعتراضها، وكان تأثيرها وفعلها أقل بكثير من دعايتها النفسية والإعلامية المسبقة، خصوصاً بعد فشل معظمها في بلوغ أهدافه داخل إسرائيل.

في المقابل اعتمدت هذه الأخيرة الأسلوب الدعائي نفسه، من خلال تكرار اجتماعات "حكومة الحرب" يوماً بعد يوم لاتخاذ قرار الرد على الهجوم الإيراني تحت عنوان "ردّ موجع لا يتسبّب بحرب". وهنا يتقاطع التنسيق المسبق، بصورة مباشرة أو غير مباشرة ، بهدف خلق مزيد من الإثارة الترويجية التي تغطّي نقص الأعمال الميدانية بأبعادها المدروسة والمحسوبة.

المشترَك الثاني هو اعتماد الطرفَين على الوسيط الأميركي، بل المرجعية الأميركية، في برمجة أو دوزنة الردود تحت سقف قواعد الاشتباك التي لا تؤدّي إلى حرب واسعة. وقد التزمت طهران وضع واشنطن مسبقاً في حقيقة الرد، حجماً ونوعاً وتوقيتاً ومدىً، وكذلك تفعل تل أبيب التي أدركت أن حصانتها الكبرى هي دعم واشنطن، وأنها عاجزة عن المواجهة القوية والمتعددة الجبهات بمفردها، بغض النظر عن التباين في الاستحقاق الرئاسي الأميركي، بحيث تحاول إيران تقديم أوراق دعم لبايدن، بينما تفضّل إسرائيل منافسه ترامب قياساً على تعاونهما السابق. ولا يخفى أن واشنطن تطلب من إسرائيل عدم الرد طالما أنها لم تُصَب بأذى يستحق الذكر، ولم تخسر لا مادياً ولا معنوياً أمام العراضة الإيرانية الاحتفالية.

أمّا المشترَك الثالث فهو تبادل الخدمات السياسية والإعلامية لتعويم الخصمَين الشريكَين "الشريفَين" في بيئتيهما ومع حلفائهما، فإيران رمّمت ثقة وكلائها بها وحققت كسباً معنوياً من خلال إظهار التزامها وعودها "الصادقة" ولو اتّسم ردّها بانعدام تأثيرة الميداني، ووضعت نفسها في مقدِّم المفاوضين سلماً أو حرباً، بينما استعادت إسرائيل تماسكها الداخلي وتعاطف دول كثيرة كانت قد نفرت من أدائها العسكري القاتل والمدمّر في قطاع غزة، خصوصاً من صلافة نتنياهو وفريقه الحربي. وربّما ستستظلّ هذا التأييد وتريّثها بعدم الردّ كي تقوم بتنفيذ عملية رفح المؤجّلة.

وقد لاحظ المراقبون كيف أتقن الفريقان فنّ التمريرات (assists) الناجحة، على القاعدة المعروفة في لعبة كرة السلّة، تحت مراقبة الحكَم الأميركي الدولي البارع!

وبعيداً من حساب أيهما الأكثر ربحاً أو الأشدّ خسارةً حتى الآن بين الفريقَين، تبيّن أن الخاسر الأكبر من تبادل الخدمات والتمريرات في لعبة الإقليم والأمم كانت قضية فلسطين ومأساة غزة اللتين أعادهما الهجوم الإيراني إلى الخط الخلفي والدرجة الثانية من الاهتمام بعدما كانتا قد اخترقتا بشكل واسع الرأي العام العالمي ومواقف الدول وجهود البحث عن حل مستقر وثابت يتخطّى الإجراءات التفصيلية للهدنة وتحرير الأسرى.

ويجوز السؤال هنا: هل تدرك إيران أنها، بقصد أو بغير قصد، قدّمت خدمة ثمينة لنتنياهو على مستوى تعويمه السياسي والعسكري؟

والخاسر الثاني كان وسيبقى لبنان المرشّح الدائم لدفع الثمن عن إيران، والذي بات معرّضاُ أكثر في المرحلة الطالعة إذا عاد الصراع إلى إطاره السابق، أي الحرب بالأذرع الإيرانية بعد نجاح الولايات المتحدة الأميركية حتى الآن في ضبط الحرب المباشرة بين إيران وإسرائيل. وتميّز اليومان المنصرمان بعودة الاستهداف الإسرائيلي لكوادر ميدانيين من "حزب الله" في الجنوب، وليس في الأفق تسوية وشيكة لوقف هذه الحرب بالواسطة.

ويخشى اللبنانيون أن يستمرّ وطنهم، من جنوبه إلى سائر أرجائه، ملعباً مفتوحاً لتمرير كرة النار القاتلة، تحت أعين الحكّام المتمرّسين وجمهور المتفرّجين.