الحدود الجغرافية أداة لترسيم إطار كل دولة ميدانياً. قد تنطلق من العوامل الطبيعية أو تكون ناجمة عن رغبة بشرية مقرونة بقوّة الفرض. لكنّ الأكيد أنّ صونها هو دائماً نتاج موازين قوى سياسية أو عسكرية. لذا إلى جانب الطابع الجغرافي، تحمل هذه الحدود أبعاداً سياسية وعسكرية واقتصادية وثقافية و"جيوبوليتيكية"، كما تعكس صورة أيّ دولة. فالحدود غير المرسّمة نهائياً هي مشروع نزاع دائم. أمّا الحدود السائبة، فهي انعكاس حتمي لضعف الدولة وباب لمشكلات لا متناهية. في حين أنّ الحدود الواضحة المعالم والمضبوطة تجسّد عامل قوّة واستقرار لأيّ دولة. لذا كثيراً ما رُسّمت الحدود بالدم أو استدعى صونها تقديم الدم. 

في لبنان، لطالما شكّل ترسيم الحدود وضبطها مدار نقاش داخلي لا بل خلاف أحياناً، فحتى الأمور البديهية تحتمل تفسيرات واجتهادات عدة. الأمر لم يكن يقتصر سابقاً على الحدود الجنوبية وكيفية التفاوض مع العدو الإسرائيلي قبل دخول الموفد الأميركي من أصول إسرائيلية آموس هوكستين على الخط ونجاحه في ترسيم الخطوط البحرية وانتقاله إلى ملف الحدود البرية، بل على الحدود مع "الشقيقة" سوريا من عكار مروراً بالسلسلة الشرقية وصولاً إلى مزارع شبعا. 

إنْ كان الانتداب الفرنسي قد رسّم الحدود بين لبنان وسوريا وفق القرار 318 الصادر عن المفوض السامي الفرنسي هنري غورو في 31 آب 1920، والذي حدّد نطاق دولة لبنان الكبير، فإنّ مطامع سوريا التاريخية بلبنان ونظرتها إليه كمحافظة "سليبة" يجب استعادتها حالاً من دون جعل ترسيم الحدود أمراً واقعاً. تضاف إلى ذلك مطامع دمشق في الثروة النفطية البحرية شمالاً حيث وقّعت عقداً مع روسيا عبر شركة "كابيتال" في 2020، ومنحتها حقاً حصرياً في التنقيب عن النفط في حقول متداخلة مع لبنان. كذلك، فإن إعاقة دمشق ترسيم الحدود تجعل منها "سيف تهريب ومخاطر أمنية وخسائر اقتصادية" مصلتاً على لبنان الدولة وسيادته. 

أنّ توقيف مخابرات الجيش عدداً من السوريين في جريمة سليمان، أجّج مخاوف اللبنانيين من قنبلة الوجود السوري في لبنان بين نازحين ومقيمين بشكل غير شرعي.


إن تناولَنا بشكل موجز ملف الحدود مع سوريا، فهو يعود بشكل أساسي إلى دور هذا العامل في جريمة خطف منسّق جبيل في "القوات اللبنانية" باسكال سليمان وتصفيته. هذه الجريمة شكّلت النقطة التي فاض معها كوب استيعاب لبنان للنازحين السوريين منذ اندلاع الحرب في بلادهم عام 2011 وكذلك للموجودين السوريين على أرضه بشكل غير شرعي. 

"تمخطُر" القتلة بالسيارة المسروقة وبجثة سليمان من أعالي جبيل مروراً بمحافظتي الشمال وعكار ووصولاً إلى سوريا، يظهر مدى خطورة الحدود السائبة. فأيّاً كانت خلفيات خطف سليمان وقتله، فثمّة ثابتة أكيدة هي أقلّه "المسؤولية المعنوية" عن الجريمة بناءً على: 

* كل من حال دون ترسيم الحدود وضبطها كي تبقى مسرحاً لتهريب السلاح والمقاتلين وممرّاً آمناً لعصابات السرقة والقتل والتهريب على أنواعه. أليس "التهريب جزءاً لا يتجزأ من عملية المقاومة والدفاع عن مصالح اللبنانيين"، كما أعلن الشيخ صادق النابلسي المقرّب من "حزب الله" في مقابلة مع "فرانس 24" في 18-4-2021؟! 

* كل من حال دون تطبيق القرارات الدولية المتعلّقة بلبنان، بما فيها القرار 1680 الذي جاء في الفقرة الرابعة منه: "يشجّع بشدّة حكومة سوريا على الاستجابة بشكل إيجابي للطلب الذي قدمته حكومة لبنان تماشياً مع الاتفاقات التي تم التوصّل إليها في الحوار الوطني اللبناني، بتحديد حدودهما المشتركة، خاصة في المناطق التي تعتبر فيها الحدود غير مؤكدة أو محل نزاع (في إشارة غير مباشرة لمزارع شبعا دون ذكرها بالاسم)". ألم يرفض الأمين العام لـ"حزب الله" السيد حسن نصرالله المطالبة بنشر قوات دولية على الحدود مع سوريا لمؤازرة الجيش اللبناني في ضبط الحدود، قائلاً في 13-5-2020: "الحديث عن قوات دولية على الحدود مع سوريا أمر لا يمكن القبول به على الإطلاق"؟! 

* كل من استخف عن حسن نية أو سوء نية بالمعابر غير الشرعية، وكلّ مسؤول معني بالملف تقاعس عن العمل على إقفالها أو حال دون صدور قرار سياسي في هذا الصدد. ففي معرض المعركة الإعلامية التي خاضها بوجه إعلان "القوات اللبنانية" ورئيسها سمير جعجع وجود عشرات المعابر غير الشرعية، طمأن وزير الدفاع يومذاك الياس بو صعب في 9-9- 2019 بالقول إنّ "لدينا في لبنان 8 إلى 10 معابر غير شرعية فقط"! نعم، فقط! كذلك بشّر اللبنانيين بأنّه تمّ الاتفاق على أن لا يطلق اسم معبر غير شرعي على المعابر المخصّصة للسير على الأقدام، كأنّها معابر Light! الخطير في تصريحه هذا هو الاعتراف علناً أنّ الجيش لا يستطيع ضبط المعابر لعدم وجود قرار سياسي بذلك. فليسأل من حال دون إصداره كوزير دفاع قراراً كهذا. 

على أنّ توقيف مخابرات الجيش عدداً من السوريين في جريمة سليمان، أجّج مخاوف اللبنانيين من قنبلة الوجود السوري في لبنان بين نازحين ومقيمين بشكل غير شرعي. قال وزير الداخلية في حكومة تصريف الاعمال بسام مولوي خلال اللقاء التشاوري في السراي الحكومي في 15-4-2024 "من أصل مليوني نازح سوري هناك 300 ألف لديهم إقامة و800 ألف مسجلين ومليون و200 ألف غير مسجلين". 

صحيح أنّ ملف النزوح معقّد وصعب، ولكن "ألف باء" البدء بالحلّ هو وضع الإصبع على الجرح لوقف النزف، أي ضبط الحدود لمنع تدفّق المزيد من النازحين السوريين، وهم هذه المرة "نازحون اقتصاديون". تكفي مراجعة بيانات الجيش اللبناني الصادرة في الأشهر الأخيرة والتي تتحدّث عن تدفّق آلاف السوريين للتأكّد من ذلك. كما تكفي معرفة أنّهم يٌرحّلون اليوم ليعودوا في الغد مجدّداً عبر الحدود السائبة. 

بناءً على ما تقدّم، فإنّ ضبط الحدود هو أكثر من ملحّ أمنياً واقتصادياً واجتماعياً لا بل هو واجب وطني، وكلّ من يعرقل حدوثه مجرم "بـ24 قيراط".