في ظلّ فوضى "العمار التجاري" في لبنان، تكثر التساؤلات بشأن مدى مطابقة المواد المستخدمة في أعمال البناء للمواصفات والمعايير العالمية، وعلى رأس تلك المواد الحديد. إذ يتكرر الحديث عن استخدام حديد غير مطابق للمواصفات في بعض أعمال البناء التجارية في البلاد، وهذا ما جعل البعض يرجّح أنّ يكون الحديد هو السبب الرئيسي الكامن وراء الخطر الذي يهدد عدداً كبيراً من المباني بالانهيار.

الحديد غير المطابق للمواصفات أرخص بـ30$

في التفاصيل، أكّد إيلي بعينو، صاحب واحدة من أكبر شركات الحديد في لبنان، لـ"الصفا نيوز" أنّه "يجب أن يكون الحديد الصالح للبناء ذا ضغط معيّن وطول معيّن، ونوعية نظيفة. وعندما تصل شحنة الحديد إلى مرفأ بيروت تؤخذ منها عينات إلى معهد البحوث وتخضع لفحوص، ونتيجة الفحص تعطى شهادة مطابقة للمواصفات لتنقل إلى الجمرك ومنه إلى الأسواق. وفي لبنان بعض شحنات الحديد لا تخضع لهذا الفحص ولا لرقابة الجمرك، نتيجة الرِّشى".

وعن سعر الحديد غير المطابق للمواصفات، قال إنّه "أرخص بحوالى 20 إلى 30$ للطن الواحد، وهو ما يتسبّب بخسائر كبيرة للتجار المعتمدين. ولأنّ قدرة تحمّله أقلّ يشكّل خطرًا على المباني التي تصبح مهددة بالسقوط لدى أيّ كارثة طبيعية ".

يذكر أنّ في لبنان 7 شركات كبرى تسيطر على سوق الحديد، وهي: شركة أيوب بعينو وأولاده، الشركة اللبنانية للمعادن، شركة جان يارد وأولاده، شركة فيليب خير وأولاده وإخوانه، شركة الزعني، شركة "السفري"، شركة دمكو.

ولا تحتاج هذه الشركات إلى تراخيص مسبقة بل إلى عنابر لتتمكن من التخزين والتصنيع والتفصيل، حسب الطلب.

أنواع الحديد

يشرح المهندس المدني والاستشاري راشد جان سركيس أنّ "كلّ مواد البناء تخضع لمعايير خاصّة، والحديد يشكّل ركناً أساسياً، لأنّه يحوّل الباطون إلى خرسانة مسلّحة ضمن ضوابط وشروط فنية ومواصفات قياسية تجعله يرتبط بشكل قوي بالخلطة الخرسانية عند الصبّ. إلّا أنّ الحديد يخضع لمعايير خاصة، فهو يجب أن يكون ليّناً وقويّاً في آن واحد، ونحن نستخدم الحديد المجدول الذي يحتمل قوة كبيرة".

ويلفت سركيس إلى أنّ "هناك نوعين من الحديد المجدول والمبروم (الأملس) الذي يستخدم للكادرات والأثقال العرضية في غالبية الأحيان، وقد حدّدت المواصفات اللبنانية القطر الأدنى بـ8 ملم الذي يمكن استخدامه لهذه الغاية. أمّا الحديد المجدول فينبغي التعرف على مواصفاته من المصدر، وفحص عيّنات قبل الاستخدام والتثبّت من مطابقة المعايير. والمواصفات صادرة عن مؤسسة المقاييس اللبنانية "LIBNOR" ولا مجال هنا لذكرها كلها".

وعن الحديد غير المطابق للمواصفات، أجاب "قد يكون الحديد من معيار معين، وعند الفحص يتبيّن أنّه يتحمّل قوّة أقلّ من المنتظر، وفي هذه الحالة يكون غير مطابق للمعايير، في حين أنّ هناك تركيبة الحديد يمكن أن تكون فيها عناصر مؤثّرة من كاربون وغيره من العناصر العضوية التي تدخل في الصناعة، غير أنّ هناك عاملاً آخر لا يقل أهمية عن قوة الحديد وتركيبته، وهو كيفية التخزين والتحميل. فقد وصلت الى لبنان سابقاً عدة شحنات خلال فترات زمنية طويلة، من كميات حديد مجدول أو مبروم كانت مركونة تحت الثلوج والعوامل المناخية المؤثرة، حتّى أنّه تبيّن وجود أنواع قابلة للكسر، وهذا أمر غاية في الخطورة. ولأجل ذلك نشدد على ضرورة فحص المواد قبل استخدامها والتثبّت من مطابقتها للمعايير والقياسات المنوّه بها".

"هناك الكثير من أنواع الحديد في السوق العالمية"، يضيف سركيس، "ومنها ما كان يُعرف قديماً بالـGrade 320 ولاحقاً توافر في السوق حديد من الـ Grade 420 واليوم يمكن الحصول على حديد من الـ Grade 520 ... في كلّ الأحوال تبقى وظيفة الحديد في الباطون المسلّح أساسية، ويجب أن يحترم الجميع الأصول والقواعد الفنية والشروط ذات الصلة، واعتماد المعايير الموثوق بها والصادرة رسمياً، ويتحقق المعنيون قبل الاستخدام من القياسات والفحوص المخبرية. وضم كل النتائج إلى ملف التنفيذ وتوثيقها مع أرشيف المشروع".

إدخال حديد غير مطابق للمواصفات في الأعوام 2000 و2014 و2020

وعن إدخال كميات من الحديد غير المطابق للمواصفات إلى لبنان، قال سركيس "لا نعرف كيف تدخل هذه المواد إلى الأسواق اللبنانية، علماً أنّه يجب ألّا تدخل إلى السوق إدا لم تكن مطابقة للمعايير. إلّا أنّ المعروف لدينا أنّه خلال الحرب دخلت إلى لبنان كميات من الحديد دون المستوى خلال الأعوام 2000 و2014 و 2020. ونحن لا نستطيع المراقبة وملاحقة كيفية دخول تلك المواد إلى البلد، إنّما يمكننا تفحّص المواد ومعرفة النتائج التي نتداولها مهنياً مع المختبرات الموثوق بها والتي تنبّهنا عند وجود مثل هذه التفاوتات غير المنطقية".

وأضاف "في لبنان، الكثير من الخروقات التي تضيء على مشكلة جوهرية ترتكز على تطبيق المعايير. وسبق أن صدر مرسوم اعتبر معايير الحديد ملزمة، إلّا أنّ قانون البناء لا يتدخل في الشؤون الفنية الخالصة على غرار المراسيم التطبيقية، في حين تبقى الهندسة هي الضابط الأول والأخير الذي يوجه العمل الفني وشروطه، وكذلك احترام المعايير والتزام تطبيقها لتوفير عناصر السلامة العامة والمتانة في المبنى المُشيّد".

وعن المسؤولية التي تتحمّلها نقابة المهندسين ومعهد البحوث، أوضح سركيس أنّ "نقابة المهندسين لا تتحمّل أيّ مسؤولية عما يعود للباطون والحديد، وهي تحفظ المستندات والمراجع العلمية والفنية والهندسية التي تعود لما قدمه المهندس على مسؤوليته إلى المشروع. وقانون البناء ينص على إلزامية وجود مهندس مسؤول في البناء يقدم تعهداً يسجله في نقابة المهندسين حسب الأصول. وإذا تبين له أي إخفاق أو مخالفة للقانون من قبل المالك، يسحب التعهد فتتوقف الأعمال. أمّا النقابة بكيانها المعنوي المؤسساتي فلا علاقة لها بموضوع الباطون والحديد والتفاصيل التقنية والفنية على الإطلاق. يُذكر أن المختبر التابع لمعهد البحوث الصناعية هو المسؤول الأول عن فحوص الموادّ المستوردة، وهو الذي يصدر الموافقة عليها بعد فحصها لإدخالها إلى البلاد".

أيّ عيّنة تُقدّم للمختبر؟

في سياق متصل، أشار الخبير العقاري جورج نور إلى أنّ "المشكلة الرئيسيّة تكمن في نوعيّة البضاعة المستخدمة لأعمال البناء وجودتها، وفي آليات التدقيق والفحص، وتحديداً في العيّنات التي يتمّ أخذها إلى المختبرات المركزيّة لتخضع للفحص، والتي تدور حولها أسئلة عديدة: ما نوعيّة هذه العيّنة؟ ومن يأخذها؟ أيّ عيّنة تصل إلى المختبر المركزي؟ وهل العيّنة التي يفحصها المختبر مطابقة للبضاعة المستوردة؟ في أكبر الموانئ العالمية، هناك مبنى موحّد، فيه وزارة المال، والجمارك، ومركز الأبحاث، ووزارة الاقتصاد، وجميع الجهات المعنيّة باستيراد المواد التي تفحصها الجهات المعنية قبل إعطائها الموافقة".

وتابع نور "يجب تحليل مواد البناء، وأيّ تحليل آخر لمواد استهلاكيّة، في الباخرة أو في المستودعات، وليس بعد أن تنتقل العينيّة من منطقة إلى أخرى. وهنا يأتي دور الجهات المعنيّة التي عليها التأكّد من أنّ هذه المواد مطابقة للمواصفات، لإعطائها الرخصة. فملفّ الطحين الفاسد لا يزال في طور التحقيق. وهو أكبر دليل على اعتماد آلية فحص خاطئة".

غياب التحقق من الجودة

في الإطار نفسه، أكّد المهندس محمد سعيد فتحي لـ"الصفا نيوز" أنّ "نسبة الكربون في الحديد المستخدم لأعمال البناء، يجب أن تكون مطابقة للمعايير العالمية لنتمكن من استعمالها في تصميم الخرسانة المسلحة. وللحديد مواصفات أميركية، وأوروبية، وعربية تختلف باختلاف التصميم وحدود الأمان المستخدمة. والحديد يتحمّل شدّاً أمّا الباطون فيتحمّل ضغطاً. والفحص الذي يخضع له الحديد في المختبر هو فحص شدّ لمعرفة على أيّ قوّة ينقطع. فيما التصميم يجب أن يتمّ وفق نصف قدرة الحديد على التحمّل".

والمشكلة في لبنان، بحسب فتحي، تكمن في غياب التحقق من الجودة لدى الأجهزة الرسمية والمختبرات. ففي الماضي شاهدت بأمّ العين عيّنات اعتمدت لجسر خلدة، تحطّمت فور إخراجها من الشاحنة. فرفضنا الحديد وطالبنا بغيره. يا للأسف أصبح أي شخص بإمكانه الإتيان بشهادة منشأ ويكتب عليها ما يشاء من كلام، فيما المفترض أن ترفض العيّنات غير الحائزة شهادة الجودة. ونحن كمهندسين لا يمكننا أن نفحص مع كلّ نقلة حديد عينات منها".

وأكّد أنّ "الأبنية التي سقطت في لبنان، هي بمعظمها قديمة ومترهّلة، ولا علاقة للحديد المستخدم بسقوطها".

عدم احترام قوانين البناء

على مقلب آخر، أكّدت مصادر مطّلعة على ملفّ الحديد غير المطابق للمواصفات لـ"الصفا نيوز" وجود مرسوم صادر عن مجلس الوزراء في الـ1999 أعطى صفة الإلزام لمواصفات الفولاذ المعد للخرسانة المسلحة، أو ما يعرف بالحديد الصالح للبناء.

ولفتت المصادر إلى أنّ ما يحصل هو عدم احترام المطوّرين العقاريين قوانين البناء، فضلاً عن عدم تأمين الإشراف من المراجع الرسمية على أعمال البناء. كما أنّ دور البلديات والنقابات أصبح محصوراً بدراسة الخرائط ووضع الرسوم إذ ليس لديها أيّ دور رقابي على الأعمال المنفّذة. والطمع بتحقيق أرباح أكبر هو من الأسباب الرئيسية الكامنة وراء عدم متانة المباني إذ يلجأ المطوّرون إلى استخدام مواد بناء رخيصة ولا يدعّمون البناء كما يجب، ويدخلون في المشاريع من دون تخطيط أو درس.

بناءً على ما تقدّم، فالحديد غير المطابق للمواصفات قد يستخدم في أعمال البناء في لبنان، دون أي ملاحقة قانونية للمهندس الذي يستخدم هذ البضاعة أو للمختبر الذي أعطى الشهادة أو المسؤول في الجمرك الذي مرّر الشاحنة، وتتمّ عمليّة إدخال هذا الحديد بأشكال عدّة، فالقسم الأكبر يصل إلى المرفأ ولا يخضع للفحص، أو تُقدّم عيّنات مغايرة إلى المختبر المسؤول عن إعطاء شهادات المطابقة للمواصفات. ويبقى المواطن اللبناني مهدداً بحياته لأكثر من سبب في دولة تتآكل وتتحلّل بشكا أسر من تآكل الحديد وتفكّك الأبنية.