كلّ المؤشّرات والمواقف الإيرانية وغيرها تدلّ إلى أنّ ردّ إيران على القصف الإسرائيلي لقنصليتها في دمشق سيكون ردّاً مباشراً منها وليس عبر أيّ من حلفائها في المنطقة (حزب الله، المقاومة الفلسطينية، المقاومة العراقية، حركة انصار الله اليمنية وغيرها) وذلك لأنّ سجلّ توعّد إيران بالردّ على الهجمات الإسرائيلية التي تعرّضت لها، ولا تزال، سواء في سوريا والمنطقة أو على الأراضي الإيرانية نفسها، كبر جداً، وبات يشكّل إحراجاً لطهران التي تتوعّد دوماً بالردّ بعد كلّ هجوم، ولكنّه غالباً لا يأتي، وإن أتى فعلى يد أحد حلفائها أو "أذرعها" في المنطقة كما يسمّيهم أعداؤها الإقليميون والدوليون. لكنّ الأمر قد اختلف هذه المرة بعد قصف القنصلية في دمشق، حيث تجد طهران نفسها أنّ لا مفرّ لها من الرد المباشر، أولاً لأنّ المكان المقصوف هو في القانون الدولي والديبلوماسي أرض إيرانية. وثانياً لأنّ الوعود الإيرانية بالردّ على هذا الهجوم وما سبقه من هجمات تضع صدقية القيادة الإيرانية على المحك، فما حصل من ردود في الماضي لم يشفِ غليل الإيرانيين قبل حلفائهم.

ويستدلّ قطب سياسي كبير على أنّ الردّ الإيراني على قصف القنصلية سيكون مباشراً من كلام مرشد الجمهورية الإسلامية الإيرانية السيد علي خامنئي إذ قال حرفياً: "سيعاقب رجالنا الشجعان النظام الصهيوني، سنجعله يندم على هذه الجريمة وغيرها". فهذا الكلام الذي يصدر للمرّة الأولى بهذه اللغة وعن "الرهبر" (أي قائد الثورة) السيد خامنئي، يؤكّد أنّ الردّ من حيث حجمه سيكون على كلّ الهجمات الإسرائيلية التي استهدفت إيران ماضياً وحاضراً. ويقول القطب إنّ "الرجال الشجعان" يقصد بهم خامنئي الإيرانيين أنفسهم لا حلفاءهم في المنطقة، وهذا يدلّ إلى تطور كبير في طريقة تعامل إيران بعد اليوم مع الهجمات التي تتعرّض لها مصالحها في الإقليم، أقلّه منذ اغتيال قائد "فيلق القدس" اللواء قاسم سليماني قبل سنوات في بغداد والردّ الإيراني عليه بقصف القاعدة الأميركية في منطقة عين الأسد العراقية.

وماذا عن طبيعة الرد الإيراني المتوقع؟

يجيب القطب أنّ من سقط في الهجوم على القنصلية الإيرانية هو قائد "فيلق القدس" التابع للحرس الثوري الإيراني في سوريا العميد محمد رضا زاهدي ومساعده محمد الهادي حاج رحيمي ومعهما مجموعة من ضباط الحرس جميعهم بصفة "مهندس" إلى جانب رتبهم العسكرية، ما يعني أنّهم يشكّلون جميعاً ما يشبه "هيئة أركان" مصغّرة لإدارة عمليات الحرس في سوريا ولبنان، وربما في المنطقة، ولذلك فإنّ حجم الردّ على مقتلهم لا يمكن التكهّن بطبيعته، لكنّه على الأرجح قد ينقل النزاع بين إيران وإسرائيل إلى مرحلة قد يتغيّر معها وجه المنطقة، إذ قد تأتي هجمات مباشرة صاروخية وجوية على مجموعة أهداف كبيرة وحساسة في إسرائيل، والبعض يتكهّن بأن يشمل هذا الرد أهدافاً إسرائيلية على كلّ الجغرافيا الفلسطينية المحتلّة، بما يفقد إسرائيل مزيداً من القدرة العسكرية الهجومية، ويكون إضعافاً جديداً لها بعد الذي أصابها في عملية "طوفان الأقصى" التي ردّت عليها بالهجوم التدميري على قطاع غزة، والذي لم تحقّق أهدافها منه حتّى الآن على الرغم من انقضاء ستّة أشهر عليه.

أمّا الاحتمال الأضعف، يقول القطب السياسي، فهو أن يشمل الردّ الإيراني أهدافاً محددة حساسة وموجعة داخل إسرائيل من شأنها أن تردعها عن الاستمرار في الحرب والهجمات على قطاع غزة وفي جنوب لبنان وصولاً إلى سوريا، لكن أحداً لا يمكنه أن يتكهّن بما سيكون عليه الموقف الإسرائيلي، فهل يستوعب الضربة أو الضربات التي ستصيبه ويرتدع؟ أم يندفع إلى ردود عليها يمكن أن تؤدّي إلى اشتعال حرب كبرى في المنطقة من البحر المتوسط إلى الخليج؟

المنطقة برمّتها تقف "على رجل ونصف"، كما يقال، في انتظار الرد الإيراني طبيعة وحجماً وأهدافاً، والرد عليه الذي يمكن إسرائيل أن تبادر إليه

ما الهدف من قصف القنصلية؟

وهذا السؤال يقود إلى التساؤل عن أهداف إسرائيل من قصف القنصلية الإيرانية في دمشق، والتي يلخّصها القطب السياسي نفسه بثلاثة:

ـ أولاً، استدراج إيران إلى حرب لطالما حلمت تل ابيب بشنّها، وتوريط الولايات المتحدة الأميركية التي منعتها دوماً عنها وما زالت إلى الآن، فإسرائيل تريد من هذه الحرب تدمير البرنامج النووي الإيراني ومنشآته لأنّه يقلقها ويقض مضاجعها لتخوّفها من تحوله من برنامج سلمي، كما تعلن طهران دوماً، إلى برنامج عسكري تمتلك معه السلاح النووي، الذي ترى فيه إسرائيل ما يهدد وجودها وتسوّقه في العالم على هذا الأساس، في حين أنّها تمتلك عشرات، إن لم يكن المئات، من الرؤوس النووية الحربية، ومفاعل ديمونة في صحراء النقب أكبر دليل على هذا الأمر.

ـ ثانياً، ردع إيران عن الاستمرار في دعم كلّ حركات المقاومة ضد اسرائيل بالمال والقدرات العسكرية من فلسطين إلى لبنان وسوريا والعراق واليمن، والتي تخوض المعركة ضدها الآن دعماً وإسناداً للمقاومة الفلسطينية في الضفة الغربية وقطاع غزة.

ـ ثالثاً، ربما كان القصف الذي شمل القاعدة العسكرية الاسرائيلية في ايلات موجعاً وأصاب أهدافا حساسة، ما دفع تل ابيب إلى رد عليه بحجم قصف القنصلية الإيرانية واغتيال قائد فيلق القدس في الحرس الثوري الإيراني العامل في سوريا مع أركانه، وقد يكون تبيّن للإسرائيليين أنّ الطائرة المسيّرة التي أصابت أهدافها الحساسة في ايلات بدقة ربما تكون من النوع الإيراني المتطور جداً الذي لا تكشفه أجهزة الرادار ولا القبّة الحديد، وأنّها انطلقت من إيران مباشرة وليس من العراق (حيث تبنّتها "المقاومة العراقية")، وهذا ما قد تكون إسرائيل اعتبرته تدخلاً إيرانياً مباشراً للمرة الأولى في الحرب الدائرة، فردّت بقصف القنصلية الإيرانية كونها أرضاً إيرانية، معبرةً بذلك عن "رسالة ردع" وجهتها إلى طهران.

"على رِجل ونصف"

في أيّ حال، فإنّ المنطقة برمّتها تقف "على رجل ونصف"، كما يقال، في انتظار الرد الإيراني طبيعة وحجماً وأهدافاً، والرد عليه الذي يمكن إسرائيل أن تبادر إليه، وكيف سيتطور الوضع بينها وبين إيران بعده، وكيف سيتصرف حلفاء كلّ منهما إزاءه. أمّا موعد الرد الإيراني فهو في العلم العسكري لا يمكن التكهن به لأنّه من طبيعة سرية وتتداخل فيه عوامل كثيرة، منها واقع المرحلة وعنصر المباغتة والمفاجأة، وتحديد الأهداف. ولكن بما أنّ إيران والمنطقة عموماً مقبلة على عيد الفطر منتصف هذا الأسبوع يمكن نظرياً و"شرعيا" استبعاد الذهاب إلى حرب في هذه "الأيام المباركة"، إلّا أنّ ذلك قد لا يقفل باب المفاجآت المفتوح على كلّ الاحتمالات والعلم يبقى عند المعنيين...

على أنّ لبنان، كغيره من دول المنطقة، يترقّب ما سيكون عليه الردّ الإيراني، وخصوصاً أنّ جبهته الجنوبية ملتهبة بمواجهات يومية منذ بداية "طوفان الأقصى" بين حزب الله وإسرائيل ويهدّد استمرارها بتوسع رقعة الحرب الذي تتوعد به إسرائيل، في حين يرد الحزب بلسان أمينه العام السيد حسن نصرالله بالقول إنّ "المقاومين على الحدود والجبهة الأمامية جاهزون لأيّ ردّ فعل"، وإنّ "المقاومة في لبنان لا تخشى حرباً ولا تخاف من الحرب"، متّهماً إسرائيل بـ"الهروب" من هذه الحرب "لأنّ قيادة العدو الإسرائيلي تعرّف ماذا يعني الذهاب إلى حرب مع لبنان". خاتماً بالقول في مناسبة "يوم القدس العالمي" يوم الجمعة الفائت: "إذا أرادوا الحرب نقول لهم يا هلا ويا مرحبا، والعدو يعرف ما الذي تعنيه الحرب مع لبنان".

ولكن وزير الدفاع الإسرائيلي يوآف غالانت سارع إلى الردّ والتعليق على الموقف الإيراني، فقال: "العدو يبحث عن طرق للرد يمكن أن تأتي من أيّ مكان، ونحن مستعدون لذلك". وأضاف "العدو تعرض لضربات قوية في كلّ مكان". وقال "مستعدون للرد في أيّ مكان، ومن الممكن أن يكون ذلك في دمشق أو في بيروت".

ولكن بعض المسؤولين والسياسيين المتابعين يتوقّعون أن تستوعب إسرائيل الرد الإيراني المنتظر على الطريقة التي استوعبت بها الولايات المتحدة الأميركية الرد على اغتيال سليماني في قاعدة "عين الأسد" العراقية، وذلك لأنّ الدولة العبرية الغارقة في وحول حرب غزة ضد حركة "حماس" وأخواتها، وكذلك في حرب الاستنزاف التي يشنّها حزب الله عليها في المنطقة الشمالية، لا يمكنها بكلّ المقاييس والمعايير والقدرات العسكرية أن تفتح حرباً ضد إيران يمكن أن تتحول حرباً شاملة في المنطقة. فمثل هذه الحرب، إن لم تغطِّها واشنطن وتشارك هي وحلفاؤها فيها لا يمكن أن تخاض، ولا تستطيع إسرائيل أن تخوضها بمفردها وبلا موافقة أميركية. وحتّى الآن تدور المفاوضات بين واشنطن وطهران في سلطنة عمان و"الديل" الذي كانتا توصّلتا إليه قبل "طوفان الأقصى" ما زال ساري المفعول بينهما، ولكنّه لن يمنع طهران من الرد على إسرائيل لقصفها قنصليتها في دمشق، وتل أبيب تدرك ذلك ولن تنجح في تلافيه.

جلسات بدورات أربع

على أنّ مصير حلّ الأزمة اللبنانية ومساره بات هو الآخر معلّقاً على ما سيؤول إليه الوضع في غزة وجنوب لبنان، وكذلك على الواقع الإقليمي الجديد الذي سيحدثه الرد الإيراني المنتظر على إسرائيل، فدخول المنطقة في حرب سيجمّد حتماً كلّ الأزمات الإقليمية، ومنها أزمة لبنان ومشاريع الحروب المطروحة في شأنها. أما إذا لم يحصل الردّ الإيراني أو حصل واستوعبته إسرائيل ولم تندفع إلى حرب ضد إيران وحلفائها في المنطقة، فإنّ ما ينتظره لبنان سيكون حراك المجموعة الخماسية العربية والدولية بعد منتصف نيسان الجاري سواء على مستوى سفرائها أو على مستوى وزراء خارجيتها حسبما يتوقع وزير الإعلام زياد مكاري، وذلك دفعاً في اتجاه انتخاب رئيس جديد للجمهورية اللبنانية. وفي هذا السياق، يقول قطب معني بهذا الاستحقاق إنّ الخماسية تركّز على تمكين الجميع من الاتفاق عبر طاولة تشاور أو تفاهم أو حوار على النزول إلى المجلس النيابي لعقد جلسات انتخابية رئاسية مفتوحة كما وعد رئيس المجلس النيابي نبيه بري، وكما تقول مبادرة تكتل "الاعتدال الوطني"، وحسب ما تحبّذ المجموعة الخماسية بحيث تتوالى هذه الجلسات في دورات اقتراع متعددة إلى أن ينتخب الرئيس الموعود.

وتفيد المعلومات بأنّ المشاورات الجارية في إطار المجموعة الخماسية وخارجها ستنتهي باتفاق على نزول النواب بمختلف كتلهم وانتماءاتهم السياسية والطائفية والمذهبية إلى جلسات انتخاب مفتوحة بحيث تعقد كل جلسة منها على أربع دورات متتالية، وكلّ جلسة منها لا تنتهي بانتخاب رئيس يرفعها رئيس المجلس ليدعو بعد أيام إلى جلسة مماثلة وبالآلية نفسها، أي تتخلّلها أربع دورات بحيث يستمر الأمر على هذا المنوال من جلسة إلى أخرى إلى أن يتم في النهاية انتخاب الرئيس الجديد. وقيل إنّ بري يؤيد اعتماد هذه الآلية بشرط أن لا يتحول مصير الجلسات النيابية كسابقاتها التي تعرضت فيها كرامة المجلس للمهانة، فيتحمّل الجميع المسؤولية لإخراج البلاد من المأزق بدءاً بانتخابه الرئيس العتيد.