"انقطع الاتصال"، جملة خبَرَها اللبناني جيداً خلال سنوات الحرب الأهلية، نتيجة تردّي خدمة الاتصالات بفعل المعارك التي كانت تدور على أكثر من جبهة داخلية. وها هو يعيشها مجدّداً بفعل تردّي الأوضاع المالية والاقتصادية. يبقى أنّها جملة تؤكّد الاتصال والتواصل رغم تقطّعه أو قبل انقطاعه. فهل انقطع التواصل الأميركي الإيراني بفعل الغارة الإسرائيلية التي يقال أنّه اختلط عليها الأمر بين غزة والقنصلية الإيرانية في دمشق في حين يقول البعض إنها أصابت هدفها.  

متى تحوّلت دمشق إلى صندوق بريد؟ وكيف حضرت بيروت بنداً أساساً على جدول أعمال الاتصالات الأميركية الإيرانية؟ وهل فعلاً تراجع الحضور السعودي كما السوري في لبنان، فانتقلنا من سين سين إلى ألف ألف؟  

لم يكن الأمر بالمفاجئ، ولم يكن سابقة رغم تبدّل المواقف بحسب تضارب المصالح. من الرعاية الأميركية للتفاهم السعودي السوري على إدارة الملف اللبناني الذي تُوِّج باتفاق الطائف، مروراً بالعديد من المحطّات المفصلية وليس آخرها اللجنة الخماسية الدولية المعنية بالشأن الرئاسي وصولاً إلى ما يشاع حول تواصل إيراني أميركي مباشر وغير مباشر يُزيّن الطبق اللبناني مأدبته.  

الـ "سين-سين" المعادلة السياسية المالية الأمنية التي طبعت لبنان في مرحلة ما بعد الحرب الأهلية، كانت على حساب المكوّن المسيحي، وهو ما تُرجِم بنفي من هنا وسجن من هناك وإحباط ماروني أرخى بظله على الحياة السياسية حتى انفرط عقد تلك المعادلة في العام 2005 مع زلزال اغتيال الرئيس رفيق الحريري. كثيرون كانوا حينذاك على مقاعد المشاهدين يمارسون أحياناً دور الناقد الفني، ليس إلّا، وهو نقد لا يؤثر في المشهد العام إذ ليس هنالك قرّاء كثر ليقرأوا.

متى تحوّلت دمشق إلى صندوق بريد؟ وكيف حضرت بيروت بنداً أساساً على جدول أعمال الاتصالات الأميركية الإيرانية؟

بعد الـ 2005 حضر الخارج بقوة وتعدّد اللاعبون وتنوّعوا. عاد من كان منفيّاً وأعفي عمّن كان محكوماً، وانضمّ الجميع إلى لعبة "الديمقراطية التوافقية" تحت المظلّة الدولية. وحين تتعقّد الأمور، ويختلف الأطراف الأكثر تمثيلاً بدل أن يتوافقوا، تقع البلاد في الشلل، أو تتعرّض لحرب، أو تشهد معارك داخلية. بغياب التوافق لا إمكان لإحداث أيّ خرق.  

تنقسم البلاد بين من يقول باستحالة مواجهة المجتمع الدولي، وبين من يقول بضرورة مواجهته، مع العلم أنّ الطرفين ينطلقان من مصلحتهما في المواجهة لا من مصلحة البلاد العليا. لا يمكن مواجهة قرارات البنك الدولي أو العقوبات الغربية. لا بد من الانصياع لقرارات مجلس الأمن والرضوخ لتهديدات الأساطيل الغربية في البحر أو حتى في ما يتعلّق بالتنقيب عن النفط أو استيراده من إيران مثلاً. ولا بد من ملاقاة اللجنة الخماسية لأجل لبنان في موضوع الانتخابات الرئاسية، اللّهم إذا اختارت الرئيس الذي يناسبنا و"نطمئن" إليه. وإلا يُصبح من غير المقبول إسقاط رئيس من فوق. الخماسية التي ينادي بها بعض الفرقاء زائداً واحداً، في إشارة إلى ضرورة أن تُضمّ طهران، ولو بشكل غير مباشر، كونها أحد اللاعبين على الساحة، تدفع ببعض من كان يروّج للخماسية إلى أن يصبح معادياً لها. وفجأة، تصبح القرارات الدولية التي كنا نقول باستحالة مواجهتها مسألة فيها نظر ، ويمكن أن نختار منها ما نريد تماماً كما نختار من قائمة طعام في مأدبة إفطار. فهل صمنا لنفطر على بصلة؟  

ربّما يغيب عن البعض أنّ مداولات اللجنة الخماسية تنتهي دوماً إلى مسامع طهران. وأنّ واشنطن، اليوم، عشية الانتخابات الرئاسية، تعيش حالة غريبة بين رئيس ينفتح على إيران ورئيس منفتح على روسيا، على وقع حرب تخاض في أوكرانيا وأخرى تخاض في فلسطين المحتلة بقيادة حكومة إسرائيلية تعمل جاهدة على جر المنطقة إلى حرب شاملة. في ظلّ هذا المشهد المأزوم والمشتعل، هل يبقى من تأثير لمن لا يملك ورقة قوة واحدة في مواجهة من يملك القوة وأوراقها؟  

قبل زمن، كانت البلاد تدار من قبل الـ"سين- سين"، وكان المعترضون كثراً وإنْ من دون تأثير. يخشى البعض في حال عودة الحرارة إلى خطّ التواصل الإيراني الأميركي أن تدخل البلاد في عصر الـ"ألف- ألف" مع ما يعنيه هذا الأمر من تغيير في موقع القيادة المحلّية المرعيّة غربياً، ومن استقرار قد يشبه إلى حد معيّن ما أعقب اتفاق الطائف.  

أمّا في حال نجاح إسرائيل في قطع الاتّصال بين واشنطن وطهران، فقد نكون أمام موجة تصعيدية، لعلّ أولى بشائرها الردّ الإيراني على استهداف القنصلية في دمشق. مع العلم أنّ الجبهة الجنوبية اللبنانية لا تزال مشتعلة.  

هنا لبنان، من "سين سين" إلى "ألف ألف" حوِّل.