يكشف ديبلوماسي مخضرم خبير في الشؤون الأميركية النقاب عن مفاوضات مباشرة بين الأميركيين والإيرانيين بلا وسيط ثالث، يرجّح أنّها تجري في سلطنة عمان، وأنّ لبنان مادّة أساسية فيها وقد يشكّل المنطلق إلى التسوية الموعودة بين الجانبين، ويشدّد على أنّ غزّة ولبنان سائران في اتجاه التهدئة بعدما وضعت واشنطن لإسرائيل ضوابط تمنعها من الذهاب في اتجاه حرب واسعة....

ويقول هذا الديبلوماسي أنّ الولايات المتحدة كانت قد قرّرت الانسحاب من المنطقة أيام الرئيس باراك أوباما، لكنّها حتّى لو أرادت الانسحاب الآن، فإنّها لن تستطيع ذلك في ظلّ ما تدّعيه إسرائيل من "خطر وجودي" يتهدّدها، وكذلك في ظلّ المصالح الاميركية البترولية في البر والبحر الشرق أوسطيين.

فما تغيّر، يضيف هذا الديبلوماسي، بالنسبة إلى الولايات المتحدة الأميركية والعالم، هو أنّ الرأي العام الأميركي والعالمي تجاه إسرائيل لم يعد تأييداً وتعاطفاً كما كان دوماً، "إذاً للمرة الأولى نسمع كلاماً في أميركا كان في علم اللوبي الإسرائيلي واليهود الأميركيين حتّى الأمس القريب ممنوعاً أن يقال، وكان يثير نوعاً من "البانيك" إلى درجة إنّك إذا قلت كلمة ضد "إسرائيل" أو قلت إنك ضد الصهيونية تصنّف على الفور معادياً للسامية. أمّا الآن فإنّ هذه الأشياء "باخت" لدى الرأي العام الأميركي والعالمي لأنّها فقدت معناها، إلى درجة أنّ الحديث عن محرقة "الهولوكوست" صار موضع انتقاد على المستوى العالمي أمام هول المجازر والمحارق التي ترتكبها إسرائيل في حقّ الفلسطينيين، فهناك تغيير كبير في الإرادة العالمية تجاه إسرائيل ومن ضمنها الإرادة الأميركية، اذ أظهرت استطلاعات الرأي في الولايات المتحدة الأميركية عند بداية حرب غزة أنّ 80% من الأميركيين يؤيدون إسرائيل، في حين أنّ الآية انقلبت الآن في استطلاعات الرأي الأخيرة، فصارت الغالبية الأميركية ضد إسرائيل، فالسؤال الذي وُجّه للمستطلعين في هذه الاستطلاعات كان: هل تتعاطف مع إسرائيل أم حركة حماس؟ فجاءت نتيجة الاستطلاع أنّ 53% من الشباب الأميركي يؤيدون "حماس" ما يدل إلى وجود انقسام كبير في الموقف إسرائيل داخل المجتمع الأميركي. فمنظمة "ايباك" الداعمة لإسرائيل جمعت مئة مليون دولار لصرفها في الانتخابات الأميركية المقبلة بغية إيصال مناصرين لإسرائيل من مستوى نواب وحكام ولايات وصولاً إلى رئيس جمهورية.

"أيباك" ومجموعة ميشيغن

في المقابل فإنّ "مجموعة ميشيغن" الداعمة للقضية الفلسطينية والتي تضمّ العرب والمسلمين في الولايات المتحدة الأميركية والموجودة في أربع ولايات منها ميشيغن واوهايو وكاليفورنيا تجمع تبرعات الآن لدعم مرشحين لمجلسي النواب والشيوخ وحكّام ولايات ومرشّح لرئاسة الجمهورية يؤيدون القضية الفلسطينية. علماً أنّ هذه الولايات الأميركية تعتبر حساسة في كلّ انتخابات أميركية وفي إمكانها أن تقلب الأمور ضد إسرائيل.

ولذلك يقول هذا الديبلوماسي إنّه لا يمكن من الآن تحديد الجهة التي ستدعمها "ايباك" "جمهورية" أو "ديومقراطية" لأنّ هذا الدعم مرهون بدعم إسرائيل، وهي يمكن أن تدعم الجهتين معاً إذا كانتا تؤيدان إسرائيل.

أمّا مجموعة ميشيغن فستدعم المرشّح الذي يؤيد القضية الفلسطينية أو ستقف على الحياد بين المرشحين المتنافسين لأن القانون يسمح بذلك، فهي اليوم تعارض سياسة الرئيس جو بايدن وموقفه المؤيد لإسرائيل في حرب غزة، وفي الوقت نفسه لا يمكنها أن تذهب إلى تأييد الرئيس السابق دونالد ترامب المؤيد لإسرائيل منذ أيام رئاسته الأولى.

بايدن وترامب وخطب الود

ولكن الملاحظ قبل أيام أنّ كلاً من بايدن وترامب باتا يتسابقان على خطب ودّ الأصوات العربية والمسلمة في الولايات المتحدة، وفي الوقت نفسه خطب ود إسرائيل والأصوات اليهودية الأميركية، معلنين مواقف تراعي الطرفين.

فبايدن اغتنم مناسبة "شهر التراث العربي ـ الأميركي" ليتقرّب من هذه الأصوات فقال "يتعيّن علينا التوقّف أيضاً للتفكير في الألم الذي يشعر به كثيرون من أفراد الجالية الأميركية العربية بسبب حرب غزة". وأضاف أنّه "ينتابه شعور بالحزن الشديد بسبب المعاناة". ولفت إلى أنه يعمل على تعزيز المساعدات الإنسانية لغزة وإطلاق سراح الرهائن الذين تحتجزهم حركة المقاومة الإسلامية (حماس) والتوصل إلى وقف فوري لإطلاق النار يستمر ستة أسابيع على الأقل، مشيراً الى "أنّ الأميركيين العرب كانوا هدفاً لجرائم الكراهية"، معدّداً هذه الجرائم التي حصلت إثر اندلاع حرب غزة.

لكن بعد ساعات من بيان بايدن قالت صحيفة "واشنطن بوست" إنّ إدارته أجازت إرسال قذائف وطائرات حربية من طراز "إف 35" إضافية لإسرائيل بمليارات الدولارات.

وفي المقابل حذّر ترامب من أنّ إسرائيل تفقد الكثير من الدعم الدولي بسبب حربها في غزة، ودعاها إلى إنهائها والمضي قدماً في عملية السلام. وقال للإسرائيليين: "عليكم أن تنجزوا الحرب. أن تنهوها. يجب أن تنتهوا منها"، وأكّد أنّه كان سيردّ "بالطريقة نفسها" التي ردت بها إسرائيل على هجوم حماس في السابع من تشرين الأول، وشدّد على أنّه يشعر بالضيق حين يرى الناس لم يعودوا يتحدّثون عن هذا الهجوم الذي وصفه بـالمروع، وإنّما عن الحرب التي حولت فيها الضربات الإسرائيلية قطاع غزة في معظمه الى أنقاض. وقال أنّ إسرائيل ارتكبت خطأ كبيراً جداً لنشرها صور القصف وسقوط القنابل على مبان في غزة. "كلّ ليلة، كنت أشاهد المباني تنهمر على الناس. وقلت: هذه صورة رهيبة. إنّها صورة سيئة جداً للعالم". أضاف "أعتقد أنّ إسرائيل أرادت أن تظهر أنّ الأمر صعب، لكن في بعض الأحيان يجب أن لا تفعل ذلك".

لعب على حبلين

على أنّ ترامب بدأ في الآونة الأخيرة الابتعاد في حملته الانتخابية عن إسرائيل محاولاً خطب ودّ الناخب العربي والمسلم في تلك الولايات الأميركية التي أيّدت بايدن في الانتخابات السابقة ومكنّته من الفوز. لكن في المقابل بدأ بايدن يلعب على الحبلين بين إسرائيل والفلسطينيين من أجل ضمان الحصول على ما أمكن من الأصوات العربية والإسلامية، فهو لا يعوّل على الأصوات اليهودية لأنّ عددها قليل إلّا أنّ مفعولها مؤثّر على مستوى تمويل الانتخابات، لأنّ اليهود يملكون تمويلاً هائلاً في هذه السنة الانتخابية التي تشهد فيها السياسة الأميركية حالة تخبط كبيرة سببها في جانب منها الانتخابات في ذاتها، وفي جانب آخر التغيير في الرأي العام الأميركي تجاه إسرائيل. فالعرب الأميركيون ينقسمون عادة بين ديموقراطيين وجمهوريين وها هم اليوم يتنقّلون من جمهوري إلى ديمقراطي وبالعكس، بمعنى أنّهم لن يصوّتوا "بلوكات" لهذا المرشح أو ذاك. وربما يذهبون إلى خيار الامتناع عن التصويت.

مستقبل غزة

وحول مستقبل غزّة يقول الدبلوماسي نفسه إن المنطق يقول إن الأوضاع من لبنان إلى غزة وبالعكس ذاهبة إلى التهدئة لأنّ الأميركيين يريدونها بأيّ ثمن، فهم منغمسون بسنة انتخابية ولا أحد منهم يريد حرباً واسعة في المنطقة، كما أنّ الأوروبيين يعارضون هذه الحرب بشدة بدليل أنّ فرنسا وبريطانيا صديقتَي الولايات المتحدة صوتتا تأييداً لقرار مجلس الأمن الدولي الأخير بوقف النار في غزة خلافاً لرأي واشنطن التي اعتمدت الخيار الثالث بالامتناع عن التصويت ولم تستخدم حق النقض "الفيتو" الذي استخدمته في جلسات سابقة. ويرى الديبلوماسي أنّ "ليس مهماً ما إذا كانت إسرائيل ستلتزم تنفيذ هذا القرار أم لا، فهي عادة لا تلتزم قرارات الأمم المتحدة، لكن المهم هو أنّ القرار الدولي الجديد يؤثر على محكمة العدل الدولية وعلى موقع إسرائيل في العالم حيث ستظهر أنّها تكسر قرارات مجلس الأمن، وهذا ما سيزيد النقمة العالمية عليها، كما سيوسّع دائرة الخلاف بينها وبين الولايات المتحدة التي لا تؤيد الحرب الواسعة.

لبنان هو نقطة مركزية في المفاوضات الأميركية ـ الإيرانية المباشرة الجارية

مفاوضات مباشرة

ويكشف الديبلوماسي عن وجود مفاوضات مباشرة تدور هذه الايام في سلطنة عمان على الأرجح بين الولايات المتحدة الأميركية وإيران، ويقول إنّ الجانبين اعترفا أخيراً بهذه المفاوضات المباشرة التي تتناول الأوضاع في منطقة الشرق الأوسط عموماً، وتركّز على وجوب تحقيق التهدئة فيها. وطبيعي أنّ كلّاً من الطرفين، وخصوصا إيران، يريد ثمناً مقابل هذه التهدئة، والمرجح أنّ الأميركي يعرض على الإيراني خفض العقوبات أو رفعها عنه في مقابل أن تلزم طهران حزب الله بالتهدئة في الجنوب اللبناني. ويرجح الديبلوماسي في هذا المجال أن يُعطى حزب الله "انتصاراً" في موضوع الحدود البرية في مقابل انسحابه من المنطقة الحدودية لتمكين إسرائيل من إعادة نازحيها الى المستوطنات الشمالية. ويقال أنّ الخلاف بات منحصراً بموضوع انسحاب إسرائيل من مزارع شبعا وتلال كفرشوبا، ويبدو أنّ الدولة العبرية اعترفت بأنّ هذه المزارع لبنانية وليست سورية كما هي مسجلة في الأمم المتحدة منذ قيام منطقة عمليات قوات "الاندوف" في الجولان السوري.

ويرى الديبلوماسي المخضرم أّن الجميع سائرون في اتجاه التهدئة سوى رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو والوزراء المتطرفين في حكومته، مثل وزير الأمن بن غفير ووزير المال بتسلئيل سموتريش، الذين يفكرون في حدّ أبعد بكثير مما يتصل بإقامة الدولة اليهودية الصافية، إلّا أنّ مواقفهم هذه لن تعوق مساعي الوصول الى التهدئة، لأنّ إسرائيل ما كان بإمكانها الاستمرار في الحرب على غزّة إلى الآن لولا الجسر الجويّ الأميركي، فكيف لها أن تكون قادرة على شن حرب واسعة على لبنان فيما الولايات المتحدة تعارضها، فواشنطن قدّمت إليها الدعم بقرار مستعجل لتمكينها من القضاء على حركة "حماس"، ولكن لا يمكنها أن تعطيها قراراً من هذا النوع بالموافقة على دخول لبنان. فلعبة المتطرّفين في حكومة نتنياهو باتت مكشوفة، وهي أنّهم بعد فشلهم يريدون إطالة أمد الحرب لضمان بقائهم في السلطة، لأنّه بمجرّد حصول وقف إطلاق نار دائم سيُقدمون للمساءلة والمحاكمة لأنّهم فشلوا في تحقيق أهدافهم من الحرب، فلا أعادوا جميع الأسرى لدى حركة حماس وأخواتها، ولا أجهزوا على "حماس" وقادتها ولا هم يمسكون القائد الحمساوي يحيى السنوار ليعلنوا "انتصاراً" أمام الرأي العام الإسرائيلي من شأنه أن يحفظ لهم مواقعهم في السلطة ويبعد عنهم سيف المحاسبة. لكن نتنياهو واقع في ورطة كبيرة في حين أنّ الآخرين ذاهبون في الاتجاه المعاكس إلى درجة أنّ أعلى مسؤول يهودي في النظام الأميركي، وهو زعيم الأغلبية الديموقراطية بمجلس الشيوخ الأميركي تشاك شومر، وجّه توبيخاً إلى إسرائيل وضع "ايباك" في موقف حساس، إذ وصف نتنياهو بأنّه "عقبة رئيسية أمام السلام" وقال "إن هناك حاجة لإجراء انتخابات جديدة في إسرائيل".

ويكشف الديبلوماسي أنّ واشنطن تعارض اجتياح رفح، وأنّ ما سمحت به لإسرائيل هو قصف أماكن محددة واغتيال قيادات محددة من دون أيّ اجتياح لها يوقع مجازر إضافية في صفوف المدنيين الفلسطينيين. وفي رأيه أنّ نتنياهو كان منذ عملية "طوفان الاقصى" ولا يزال يفتش لنفسه عن "انتصار" لإقناع إلاسرائيليين بجدوى الحرب التي شنّها على "حماس"، خصوصاً أنّ عدد القتلى والجرحى الإسرائيليين المعترف به رسمياً بين عسكريين ومدنيين بلغ العشرة آلاف قتيل، في حين أنْ\ّ الأرقام الحقيقية هي أكبر من ذلك،وستظهر لاحقاً لتكون مدوّية في المجتمع الإسرائيلي ضد نتنياهو وحكومته.

ماذا عن لبنان؟

وماذا عن لبنان في ظلّ كلّ هذه المعطيات؟ يجيب الديبلوماسي "أنّ لبنان محكوم بالواقع نفسه وهو أن لا أحد يريد حرباً على الرّغم من التهديد الإسرائيلي، لكن لبنان هو نقطة مركزية في المفاوضات الأميركية ـ الإيرانية المباشرة الجارية، وربما يكون هو المنطلق إلى التسوية الموعودة بين الجانبين في هذه المفاوضات ومن ضمنها. ويرجح أن تساعد هذه التسوية على تأمين المخارج لإنجاز استحقاق رئاسي بالتوافق بين المعنيين. لكنّ الإدارة الأميركية لا تتدخل في هذا الاستحقاق إلّا من زاوية وضع "فيتو" على اسم أيّ مرشح ترى فيه ما يتعارض مع مصالحها الإستراتيجية، وحتّى الآن لم تضع أيّ فيتو على أي من المرشحين المطروحين، وعلى رأسهم رئيس تيار "المردة" سليمان فرنجية. فواشنطن، حسب الديبلوماسي المخضرم، تعلّمت من التجربة أن لا تتدخل في انتخابات رئاسة الجمهورية اللبنانية منذ تدخّلها عام 1988 لدى انتهاء ولاية الرئيس أمين الجميّل عندما طرحت معادلة "إمّا مخايل الضاهر وإمّا الفوضى" التي اتفقت عليها مع دمشق يومذاك وانتهت إلى فشل.

على أنّ الأميركيين، حسب الديبلوماسي الخبير بشؤونهم، "لا فرق عندهم في انتخاب أيّ كان لرئاسة الجمهورية اللبنانية، لكنّهم غالباً ما يضعون "فيتو" على اسم أو أسماء يرون فيها ما يتعارض مع مصالحهم الإستراتيجية، ولذلك يقولون لجميع سائليهم في هذه الأيام: فليتفق اللبنانيون بعضهم مع بعض على انتخاب رئيس من دون اللجوء إلى فرض رئيس عليهم من الخارج، ونحن أخطأنا يوم حاولنا فرض معادلة "إمّا على مخايل الضاهر وإمّا الفوضى"، ولن نكرر هذا الخطأ ثانية في هذه الأيام".