أن تتمنّى للوطن السلامة في بلد مثل لبنان أمرٌ يعطي انطباعاً سلبياً رغم أن ليس في المقولة ما يعبّر عن سوء. ولكنّ المسألة في ما يستبطنه التمنّي وما يمكن أن يستنبطه المتلقّي من معانٍ.
"مع السلامة يا وطن" جملة قد تكون مألوفة في مناطق لبنانية مختلفة حيث تُستعمل كلمة وطن للدلالة على جنود الجيش اللبناني. كثيرة هي المواقف التي يحيّي فيها المواطنون الجنود المنتشرين في المناطق بـ"الله معك يا وطن". إذا افترضنا أنّ في الوطن، هنا، إشارة إلى العسكر المنتشر في طول البلاد وعرضها منذ سنوات طويلة في ما يشبه حالة الحرب المستمرّة، والتي تراوح حيناً بين حالة الطوارئ وبين الاستنفار أو التعبئة العامة. كما تختلف حالته بين منطقة وأخرى. فرغم صغر مساحة الوطن جغرافياً فإنّ حالات أطرافه تختلف بحسب موقع كل طرف من الحدود، وممن هم خلفها، ومدى قدرته على التصدّي لأي اعتداء، هو الممنوع من استخدام عتاده في اتجاهات محدّدة بحسب الجهة المصنّعة والمورّدة للسلاح.
وجندي الوطن هنا، بدل أن يكون، كما غيره في سائر بلدان العالم، موجوداً في ثكنته أو عند نقاط محددة فقط، نراه اليوم في كل مكان قائماً بجميع المهام، حتى أن رفاقه باتوا يتولّون مهمات كان يفترض أن يقوم بها موظفون عاديون. كلّ هذا كان قبل الأزمة الاقتصادية المالية الّتي ألمّت بالبلاد، فما بالك وقد أصبح الجندي، في هذه المرحلة، يعتاش من دعم شهري تتلقّاه قيادته من بعض الدول "الصديقة".
هذا الجندي نفسه، في حالته المعيشيةالراهنة، لا يمتلك ترسانة حربية ولا أساطيل بحرية ولا أسراب طائرات حربية يريدون له أن يتصدى لمواجهة الأطماع الخارجية في أرضه. كما يريده فرقاء فاعلاً في مواجهة بعض الداخل من دون اعتبار لكل ما سلف ولا لعقيدة الجيش الوطنية المتعالية على جميع المصالح والحساسيات الفئوية.
وكأنّ مظاهر تحلّل الدولة بفعل الأزمة المالية لم يكن كافياً، فإذا بنا اليوم نواجه ما يشبه تفكك مكونات الوطن.
ويقول فرقاء بضرورة المؤازرة الخارجية لهذا "الوطن" عبر قوات دولية، كأنّ القوات الدولية لا تعبّر عن مصالح غالباً ما تتماهى مع العدو الأول للبنان، والذي يحتل بعض أرضه ويخرق سيادته جواً وبحراً وبراً ويعمل على جرّ مياهه ويقضي على أبنائه ويصيبهم بشكل مستمر منذ نشأة كيانه المغتصب. كما يغفل هؤلاء الفرقاء أو يتجاهلون أن هذه القوات لم تستطع أن تحول دون كل ما تعرّض له لبنان من اعتداءات منذ إنشاء قوات الطوارئ الدولية العاملة في جنوب لبنان في العام 1978 إلى اليوم، والتي كانت مراكزها نفسها عرضة للقصف ومسرحاً للمجازر الإسرائيلية كما حصل في بلدة قانا الجنوبية في العام 1996.
وبالعودة إلى كلمة وطن، لا بدّ من التمييز بين الوطن والسلطة السياسية. فالسلطة عبارة عن أشخاص وأحزاب وبرامج ومشاريع. أمّا الوطن فهو انتماء إلى أرض وهوية وإرث وتاريخ وعائلة. وقد لا يكون ثمّة أسف على سلطات سياسية تأتي وتروح، ويتم تقييمها بما أنجزت لمصلحة المواطنين جميعاً من دون تمييز. وعلى ندرة هذه العينة من السلطات، يبقى الخوف قائماً على زوال الوطن وتفكّكه. وكأنّ مظاهر تحلّل الدولة بفعل الأزمة المالية لم يكن كافياً، فإذا بنا اليوم نواجه ما يشبه تفكك مكونات الوطن.
"ما بيشبهونا" و "ما فينا نعيش سوا" و "قَسّْموا البلد وخلّصونا" وخطاب "نحن" و"هم" إذ يحضر الآخر وتحضر شياطينه معه، وتالياً أبلسة كلّ مختلِف والبحث عن أسباب للانعزال. لغة دينية طائفية مناطقية تستعيد مصطلحات الحرب الأهلية كأنّنا لا نزال عشية 13 نيسان 1975. وكأننا لم نعش كلّ تلك المآسي والمجازر والأزمات. وكأنّنا لم نعش النزوح والتهجير. وكأننا لم نتعلّم من دروس الماضي ولم نأخذ العبر. يتجدد اليوم الخلط بين الخصم والعدو والبحث عن أسباب تخفيفية للاحتلال والبحث عن كلّ ما يمكن إلصاقه بالخصم من اتهامات وتبرئة الخارج أيًّا كان هذا الخارج ومشاريعه وإعلان الحرب على الداخل من دون اعتبار لأسباب تخفيفية. واقع يكشف أنّ أولى حروبنا يجب أن تكون ذاتية بحيث تكمن في ذواتنا شياطين كثر. فهل ننجح في القضاء على شياطيننا؟
يبدو الوطن، اليوم، تماماً كما كان في تلك الأيام التي سبقت 13 نيسان 1975، وها نحن نقبل على نيسان جديد، فهل نكرر مأساتنا التي لا يبدو أن هناك رجوعاً منها هذه المرّة. إذ يحضر مرّة جديدة مشروع الوطن البديل للفلسطينيين، وقد أضيف إليهم ملايين النازحين السوريين في حين بلغت نسبة المهاجرين اللبنانيين بين عامي 2012 و2023 نحو 621550 لبنانياً بحسب "الدولية للمعلومات". كأنّي بغالبية الذين هاجروا يقولون: "مع السلامة يا وطن".