مهما طال الكذب، ومهما بلغ التضخيم، ومهما مُوّه الاجتزاء، فلا بدّ من أن تسفر هذه الأمور مجتمعةً عن نتيجة عكسية. إلّا أنّ بعض الساسة لا يتردّدون في اللجوء إلى هذا الثلاثي في معرض الترويج لصورة يسعون إلى إعطائها عن أنفسهم أو إلى انطباع يجهدون لتعميمه بغضّ النظر عن مدى صحته. فالدعاية السياسية والتسويق وصناعة الصورة في نظر هذا البعض تتأرجح كلها بين حدّي "المكيافيلية" وقاعدتها الشهيرة "الغاية تبرّر الوسيلة" من جهة و"الغوبلزية" ومقولات كـ "كلما كبرت الكذبة سهل تصديقها" و"اكذِبْ حتى يصدّقك الآخرون" من جهة أخرى. 

في الحياة السياسية اللبنانية، لا عقدة لدى بعض المكونات من طغيان لون طائفي على تركيبتها، في حين يسعى البعض الآخر إلى تبديد هذه الحقيقة وإن عبر تنوّع مصطنع من حيث التركيبة أو الاحتضان. في الأساس، الأهمّ من طبيعة تركيبة أيّ مكوّن هو أن تتخطّى غايته المصالح الشخصية الضيّقة أو المشاريع الطائفية الصرف. 

قبل حرب الـ75، قلّما ظهرت عقدة اللون الطائفي الواحد لدى المكوّنات السياسية، فاكتفى بعضها بـ"التنوّع الشكلي" ولم يلجأ إلى "التنوّع المصطنع" القائم على "الكذب" أو "التضخيم". فعلى سبيل المثال، كان حزب "الكتائب" مسيحياً صرفاً ولم يشكّل له ذلك "عقدة نقص". وكان "حزب الوطنيين الأحرار" حالة شمعونية عابرة للطوائف بشكل عفوي تكوكبت حول الرئيس كميل شمعون وخُلق لها إطار حزبي. إلّا أنّ التنوع في الوجوه السياسية حول شمعون لم يترجم تنوّعاً شعبياً بالنسبة نفسها الموجودة في صفوف القاعدة الحزبية حيث طغى الطابع المسيحي. 

أمّا "الحزب التقدمي الاشتراكي" الذي تحلّق أيضاً حول شخصية "المعلّم" كمال جنبلاط وفكره، فتميّز بتنوّع عمودي تحت ستار البعد العلماني وتبنّي الاشتراكية فيما كان الثقل الدرزي طاغياً أفقياً على صعيد القاعدة الشعبية. في المقابل، سُنيّاً وشيعيّاً لا مكوّنات سياسية حزبية وازنة بل شخصيات وزعامات تقليدية وقواعد مشتّتة بينها وبين الأحزاب الناصرية والعروبية واليسارية من "بعث" سوري وعراقي و"سوري قومي اجتماعي" وشيوعي... 

إلّا إنّ أولى بوادر "التنوّع المصطنع" ظهرت بشكل "فاقع" مع الجنرال ميشال عون عام 1988. ففي خلال انقلابه على المهمّة الموكلة إليه - كرئيس للحكومة الانتقالية التي عُيّنت لتأمين انتخاب رئيس للجمهورية - والتحوّل إلى حالة سياسية هادفة للوصول إلى بعبدا من باب رئاسة الجمهورية، سعى عون إلى الترويج أنّ مشروعه يحظى بالتفاف شعبي عابر للطوائف وخطابه يتردّد صداه على مساحة الوطن كلّه. 

ففي 30 تشرين الثاني 1989، أطلّ الشيخ السنّي المعمّم عماد حسن النجار من قصر بعبدا خطيباً في الحشود المتجمهرة في "بيت الشعب"، مدّعياً أنّه آتٍ من "الطريق الجديدة" على رأس وفد من المنطقة لتأييد مواقف العماد عون. لكن هذه "الرواية" لم تدم 24 ساعة، إذ سرعان ما تبيّن أن الشيخ المذكور ما هو إلّا عفيف الصندقلي المعاون في صفوف الجيش التابع لعون. لذا قرّرت المديرية العامة للأوقاف الإسلامية وفق بيان صادر في 1 كانون الأول 1989 "إقامة دعوى جزائية أمام النيابة العامة، على المدعو عفيف الصندقلي الذي أقدم علانية على ارتداء الزي الديني المتعارف علنية لعلماء الدين الاسلامي، منتحلاً اسماً مستعاراً ومسمياً نفسه باسم عماد حسن نجار". 

كذلك بعد الحرب، سعى كثيرون إلى "التنوّع المصطنع" في ظلّ تزايد "التنمّر" على المكوّنات السياسية ذات اللون الواحد على وقع البدع اللغوية التي سعى إليها النظام السوري في لبنان، وتكفّل بنشرها من داروا في فلكه، كالسعي لاستبدال مصطلح "العيش المشترك" بـ"العيش الواحد". 

ففيما بقي "الكتائب" على حاله وشاركه حزب "القوات اللبنانية" في عدم الاكتراث للبحث عن "تنوّع مصطنع" والاستعاضة عن ذلك بتحالفات عابرة للطوائف حول مشروع سياسي، فقد "حزب الوطنيين الأحرار" في غياب الرئيس كميل شمعون التنوّع في الوجوه السياسية. 

"التقدميّ" الذي تعرّى في الحرب من العلمانية والاشتراكية اللتين لم تشفعا بمريديه من المسيحيين الذين دفعوا فاتورة الدم على أيدي رفاقهم، خصوصاً خلال مجازر حرب الجبل السيّئة الذكر، عاد في زمن السلام إلى التنوّع الذي حرص عليه زعيمه وليد جنبلاط، وإن بقي عمودياً مقابل شبه صفاء درزي أفقياً. 

أمّا "تيار المستقبل"، فكان التنوع فيه عمودياً كـ"الأحرار" و"الاشتراكي" قبل الحرب، بفضل الرئيس الشهيد رفيق الحريري الذي يملك "قماشة القائد" كشمعون وجنبلاط، أما أفقياً فكانت قاعدته بسوادها الأعظم سُنيّة. 

"أفواج المقاومة اللبنانية" - "أمل" شكّلت حالة شيعية عمودياً وأفقياً ولم تنجح في اجتذاب التنوّع في الوجوه التي التفّت حول الأمام موسى الصدر إلى إطارها التنظيمي. أمّا "حزب الله"، فلا يحتمل بعده العقائدي التنوّعَ حتّى داخل "أهل البيت". فالإيمان بعقيدة "الولي الفقيه" مدخل أساسي للالتزام بصفوفه. 

كثيرون سعوا إلى الاستعاضة عن غياب التنوّع الأفقي، وحتّى العمودي، في أحزابهم، بتنوّع في الكتلة النيابية التي شكّلوها، وإنْ من حيث الشكل، لأنّ النواب من المذاهب الأخرى ليسوا أكثر من ركاب "بواسط" هذه الأحزاب التي استفادت من فائض أصواتها المذهبية الصرف في بعض الدوائر لضمان ذلك. 

إلّا أن المفارقة التي نعيشها في هذه المرحلة الحساسة على وقع حرب يخوضها "حزب الله" تحت شعار المشاغلة وهاجس توسعه،  هي ظاهرة بحث "الحزب" عن "التنوع المصطنع" في الاحتضان. وهو قلق جرّاء تراجع حجم الالتفاف العابر للطوائف حول خوضه الحرب مقارنة بالعام 2006. يومذاك، كان يحظى بتأييد أكبر مكونٍ سياسي وشعبي ونيابي مسيحي بعد تحقيقه "تسونامي" انتخابياً عام 2005، هو "التيار الوطني الحر". تأييدٌ عمادُه ورقة تفاهم "مار مخايل" التي تترنّح اليوم. أمّا سُنّياً، فإنّ سبب تراجع الالتفاف حوله ناجم عن معطيين: حال الفوضى والضياع لدى المكوّن السُنّي بعد تعليق زعيمه الأول الرئيس سعد الحريري العمل السياسي من جهة، وتداعيات جرح "7 أيار" الذي لم يندمل بعد من جهة أخرى. هذه التداعيات حاضرة أيضاً لدى شريحة كبرى من "بني معروف". 

من هذا المنطلق، يمكن فهم تضخيم "الحزب" أيّ تأييد فردي لحربه من قبل أيّ مسيحيّ خصوصاً، وردّة الفعل غير المسبوقة من كوادر أساسية سياسية فيه من نواب ووزراء كما جرى مع الإشكالية التي رافقت أداء "الأخت" مايا زيادة العونية المشارب سياسياً، من النائب إبراهيم الموسوي إلى القاضي محمد وسام المرتضى. لم يكتفِ "الحزب" بدفاع باسيل وتياره عن الأخت زيادة بل أقدم على ردّة فعل لم نشهدها سابقاً، فهو لم يتضامن هكذا مع الأب كميل مبارك على سبيل المثال. 

"التنوّع المصطنع" في الاحتضان كان مهّد له "الحزب" بمشهدية الأساقفة والإكليروس المسيحي في معلم مليتا الجهادي في أيار الماضي. كما يمكن تلمّسه لدى بيئة "الحزب" على وسائل التواصل الاجتماعي التي تسعى لتضخيم ظواهر كالناشطة العونية زينة كرم التي "تقدّس" قائد "فيلق القدس" في الحرس الثوري الإيراني اللواء قاسم سليماني. 

لكن هل من يتّعظ من تجربة الـ75 التي أسقطت مفاعيل أيّ تنوّع صوري، فكيف إذا كان هذا التنوّع مصطنعاً كما هو اليوم؟ هل من يدرّك أنّ الأساس في مجتمعات مركّبة هو التنوّع في تبني المشاريع السياسية كما تجلّى في مشهدية "8 و14 آذار" لا "التنوع الفولكلوري" في الانتماءات الدينية أو العرقية أو المناطقية، والاكتفاء بـ"الصورة"؟