اختلفت التقديرات حول نتائج زيارة الموفد الرئاسي الأميركي آموس هوكستين الأخيرة للبنان وإسرائيل لتراوح بين احتمالين: الأول أنّ صفقة حلّ متكامل بدأ إعدادها وتحتاج إلى بعض الوقت لتتبلور ريثما يتمّ التوصّل إلى هدنة في غزّة تنعكس تلقائياً هدنة على الحدود الجنوبية اللبنانية. والثاني أنّ الإدارة الأميركية الحالية بدأت تفقد زمام السيطرة على حكومة بنيامين نتنياهو، وبالتالي لن تدخل في هدنة، وستمضي قدماً إلى اجتياح رفح وفي الوقت نفسه تنفيذ تهديدها باحتلال جنوب نهر الليطاني.

المؤشّر إلى الاحتمال الأول هو أنّ ما يدور في اللقاءات بين رئيس مجلس النواب نبيه بري وهوكستين هو الأساس في الصفقة التي يُعمل عليها، وكل ما عدا ذلك ليس سوى محاولة لتمهيد الأجواء المطلوبة لزوم هذه الصفقة. فالموفد الأميركي على ما يقول مصدر مطّلع على أجواء محادثاته، وضع بين يدي بري مجموعة أفكار لـ"اتفاق إطار" أو "إطار اتفاق" على أن يُعمل لاحقاً على صوغه، وهناك اتفاق بين الرجلين على أن يعود هوكستين إلى لبنان حالما تحصل هدنة غزة.

ومن المقدمات التمهيدية للصفقة الموعودة ربما تكون اللقاءات التي عقدها هوكستين مع بعض قيادات أحزاب المعارضة، ولا سيما منها تلك التي تخشى أن تأتي هذه الصفقة على حسابها أو في غير مصلحتها، وعلى ما يبدو فإنّ هوكستين استشرف مناخ مواقف هؤلاء من الأوضاع السائدة في الجنوب امتداداً إلى الداخل حيث الخلاف المستحكم حول الاستحقاق الرئاسي.

وربما تكون من المقدمات التمهيدية أيضاً زيارة وفد كتلة "الوفاء للمقاومة" برئاسة رئيسها النائب محمد رعد للرئيس السابق ميشال عون في اعتبار أنّ صفقة الحل في شقّها اللبناني تنطلق أو تتطلّب التوافق على شخص رئيس جمهورية أو إقناع الفرقاء الآخرين بالخيار الذي قد يكون الكبار من أصحاب القرار التقوا عليه. والمرجح أن يكون لقاء الرابية مقدّمة لاجتماعات عملية بين مسؤولين في حزب الله وآخرين من "التيار الحر" تبحث في الاستحقاق الرئاسي وسواه.

وجزم أحد الذين شاركوا في لقاء الرابية أن المجتمعين لم يبحثوا في موضوع الاستحقاق الرئاسي، وإنّما بحثوا في عموميات العلاقة بين "الحزب" و"التيار"، وبدا أنّ جو الرئيس عون في هذا الاتجاه إيجابي وذهنه حاضر ونشيط ويتابع كلّ التطورات الداخلية والخارجية لكنّه مرتاب من الصمت الدولي إزاء ما يحصل في غزة.

ويروي المصدر "أنّ اللقاء كان حميماً جداً وخرج المشاركون فيه مرتاحين إلى الإحاطة التي قدّمها عون حول تطورات الأوضاع في غزة ولبنان. وقد اطلع عون في الوقت نفسه على "حقائق ميدانية موضوعية لا يعرفها إلّا أهل الميدان"، واعتبر أنّ ما يجري في غزة من استهداف للمدنيين لم يحصل في تاريخ العالم المعاصر ولا شاهدناه في الحرب العالمية الثانية ".

وعند البحث في الجو السائد على مستوى العلاقة بين "التيار" و"الحزب" أكّد عون للوفد "أنّ ما بيننا هو تاريخ وأنا والسيد لم نوقّع ورقة وإنّما أعطينا التزاماً ونحن نتفهم الظروف وثابتون على قيمنا وعلى ما نشأنا عليه، وأنا ترعرت في الضاحية الجنوبية لبيروت ولا أعرف الطائفية".

لكنّ أحد السياسيين المسيحيين قال إنّ من أهداف لقاء الرابية الوقوف على حقيقة الموقف المسيحي مما يجري على الجبهة الجنوبية، وكيف سيكون نبض الشارع المسيحي في حال توسّع دائرة الحرب.

وكان اللافت أنّ رئيس التيار جبران باسيل كرّر بعد ساعات على لقاء الرابية موقفه المعارض لوحدة الجبهات، وهو موقف يتّخذه منذ 8 تشرين الأول يوم تدخّل حزب الله في الحرب غداة عملية طوفان الأقصى تحت عنوان إسناد المقاومة الفلسطينية في غزة.

ويقول سياسي متابع على مستوى الاستحقاق السياسي أن المبادرة الفرنسية في شأن هذا الاستحقاق انتهت، وأنّ الجميع باتوا متّفقين على موقف الرئيس نبيه بري، وهو أنّ انتخاب رئيس الجمهورية وحده غير كافٍ، وإنّما المطلوب سلّة حلّ فيها ثلاثة أسماء: رئيس الجمهورية ورئيس الحكومة وقائد الجيش. وأشار المصدر إلى أنّ اسمي رئيس الجمهورية وقائد الجيش باتا محسومين في حين تركز الاتصالات على حسم اسم رئيس الحكومة من بين مجموعة ضئيلة من الأسماء.

إلى ذلك، تعددت الروايات حول طبيعة اللقاءات التي عقدها هوكستين مع عدد من رؤساء وقيادات احزاب المعارضة التي ترفض تدخّل حزب الله في الحرب وتوسع دائرتها وتطالب بتنفيذ القرار الدولي 1701 ونشر الجيش اللبناني وقوات "اليونيفيل" في المنطقة الحدودية بعد أن تنسحب منها المقاومة.

تعددت الروايات حول طبيعة اللقاءات التي عقدها هوكستين مع عدد من رؤساء وقيادات احزاب المعارضة

غير أنّ هذه الروايات استقرّت على اثنتين: الأولى أنّ هوكستين وسّع مهمته الحدودية إلى الجانب السياسي، وتحديداً الرئاسي، كونه يبحث مع بري ورئيس الحكومة نجيب ميقاتي في صفقة حلّ متكامل يقوم على تنفيذ القرار 1701 على جانبي الحدود بشرط أن يسبق هذا التنفيذ إقامة سلطة لبنانية جديدة تبدأ بانتخاب رئيس جمهورية وتشكيل حكومة جديدة هي صاحبة الصلاحية في هذا التنفيذ، والأسبقية في هذه الصلاحية هي لرئيس الجمهورية الذي أناط الدستور به دون سواه صلاحية التفاوض على عقد المعاهدات الدولية. ولذلك أراد هوكستين سماع رأي فريق المعارضة في هذا الصدد سواء حول الشقّ الحدودي أو حول الشق الرئاسي. واللافت أنّه استثنى من هذه اللقاءات "التيار الوطني الحر"، وإن كان البعض اعتبر أنّه اكتفى بلقائه مع نائب رئيس مجلس النواب الياس بو صعب باعتباره أحد المسؤولين في التيار على الرغم ممّا يقال عن وجود تباين بينه وبين باسيل.

أمّا الرواية الثانية فقالت إن بعض مسؤولي أحزاب المعارضة وقادتها هم من بادر إلى طلب اللقاء مع هوكستين عبر السفارة الأميركية، فوافق على الاجتماع بهم. ما أعلن، أو ما صدر عن هؤلاء بعد لقاءاتهم مع هوكستين، أكّد أنّهم بحثوا معه في تنفيذ القرار 1701 وشرحوا له مطلبهم في هذا الأمر ورفضهم تدخل حزب الله في الحرب، ممّا يهدد بتوسّعها إسرائيلياً في اتجاه لبنان، الأمر الذي يلحق دماراً به قد لا يقلّ حجماً عن ذلك الذي ألحقته إسرائيل ولا تزال بقطاع غزة.

لكن ما سكت عنه عمّا دار في هذه اللقاءات هو أنّ هؤلاء عبّروا عن قلقهم من أن يكون هوكستين يرتّب صفقة حلّ مع "الفريق الآخر"، وتحديداً مع الثنائي الشيعي وحلفائه، يمكن أن تحمل رئيس تيار المردة سليمان فرنجية إلى رئاسة الجمهورية، وأكّدوا أنّهم سيعارضون صفقة من هذا النوع إذا طرحت لأنّهم يرفضون وصول فرنجية إلى رئاسة الجمهورية، ويجاريهم في هذا الموقف "التيار الوطني الحر" في الوقت الذي لم يتمكن هؤلاء مجتمعين منذ فجر الاستحقاق من الاتفاق على مرشح "يعبّر عن الوجدان المسيحي" كما يرددون، كذلك لم يتمكّنوا من التوافق على مرشح من الفريق الآخر سواء كان فرنجية أو غيره، علماً أنّ تقاطعهم كمعارضين على دعم ترشيح الوزير السابق جهاد أزعور لم يكن لإيصاله بمقدار ما كانت الغاية منه إسقاط ترشيح فرنجية، الأمر الذي لم يحصل على الرغم من نتائج الجلسة الانتخابية التي عقدت في حزيران الماضي وفاز فيها ازعور بـ59 صوتاً مقابل 51 صوتاً لفرنجية ليتوقّف انعقاد الجلسات الانتخابية منذ ذلك التاريخ إلى الآن.

على أنّه في الوقت الذي تعلن إسرائيل أنّها حددت منتصف آذار الجاري موعداً أقصى للوصول إلى تسوية على الحدود الشمالية مع لبنان تمكّنها من إعادة سكان المستوطنات الشمالية إلى منازلهم تحت طائلة توسعة الحرب، فإنّ التفسيرات التي رافقت هذا التصرف الإسرائيلي هي ممارسة تهويل على حزب الله لكي يوقف حرب الاستنزاف التي يشنّها ضدّها على الجبهة الجنوبية، أو الذهاب إلى خيار توسعة الحرب تحت عنوان لا عودة إلى ما قبل 7 تشرين الأول في منطقة جنوب الليطاني وفقاً لمفهومها، وهو تنفيذ القرار 1701 بانسحاب المقاومة إلى شمالها وانتشار الجيش اللبناني وقوة اليونيفيل على نحو ينشىء منطقة عازلة تمنع حصول الهجمات مستقبلاً بين الجانبين. ولكن في المقابل، فإنّ حزب الله يعلن أن لا عودة إلى ما قبل 6 تشرين الأول 2023 سواء من حيث قواعد الاشتباك المعمول بها أو من حيث استمرار إسرائيل في خرق السيادة اللبنانية براً وبحراً وجواً كل يوم . فما يطلبه الحزب هو الانسحاب من النقاط الثلاث عشرة التي تعتدي إسرائيل فيها على حدود لبنان الدولية المرسمة منذ عام 1923 والمثبتة بموجب اتفاقية الهدنة في آذار 1949، أي بعد سنة على قيام الكيان الإسرائيلي، وكذلك انسحاب إسرائيل من مزارع شبعا وتلال كفرشوبا ومن خراج بلدة الماري (شمال قرية الغجر السورية) على أن تنشأ المنطقة العازلة على جانبي الحدود ولا تقتصر على الجانب اللبناني فقط.

واللافت في زيارة هوكستين هذه المرة هو أنّه انتقل من لبنان إلى إسرائيل عبر قبرص ليستقبله هناك وزير الدفاع يوآف غالانت فقط، في حين لم يستقبله رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو ووزراء آخرون كما حصل في الزيارة السابقة قبل أسابيع من زيارته الأخيرة للبنان. وعزا مصدر مطلع على الموقف الأميركي السبب إلى العلاقة السيئة السائدة حاليا، بين بايدن ونتنياهو. ويعتقد المصدر أنّ زيارة هوكستين للبنان هذه المرة "كانت بمنزلة إنذار من أنّ إسرائيل تتجه إلى توسعة الحرب، وأنّ كلمته المكتوبة التي وزعها بعد محادثاته مع بري هي كلمة تحذيرية، مفادها أنّ الإدارة الأميركية لن يكون في مقدورها منع إسرائيل من توسعة الحرب متى أرادت، فهي كلما اقتربت من موعد من الانتخابات ضعُفت في حين يزداد نتنياهو استقواء عليها ممنّناً النفس بوصول صديقه دونالد ترامب إلى البيت الأبيض، ومعه ثنائي جورج بومبيو ـ ديفيد شينكر.