باستثناء زيارته الطويلة إلى عين التينة من أجل لقاء رئيس مجلس النواب نبيه بري، لم يخرج الموفد الاميركي الرئاسي آموس هوكستين بمعطى جديد. لقاءاته على هامش لقاء بري من دون جدوى. فما أراد قوله ونيل الإجابة عنه كان في عين التينة وحدها ويبقى سرّ الإجابة في عهدة رئيس المجلس، الذي يكشف عنه لشريكه في "الثنائية"، أي حزب الله. وعلى خلاف عادته، زار بيروت ومن ثمّ إسرائيل، وهذا ما يعزّز فرضية وجود طرح أميركي يتعلّق بجبهة الجنوب. 

على وقع تصعيد عنيف، وصل الموفد الأميركي بعدما كانت زيارته موضع تشكيك قبل أن تدخل الهدنة في غزّة حيز التنفيذ. الساعات القليلة التي أمضاها في بيروت لم تحمل ما هو أبعد من التهديد بأنّ هدنة غزة لن تسري على الجنوب بحيث يصعب عودة الوضع إلى ما كان عليه سابقاً. لكأنّ جبهة الجنوب تسابق جهود هوكستين وتحاصرها لتفرض معادلة جديدة خارج نطاق المسعى الأميركي المتماهي مع مطالب إسرائيل. 

خلال زيارته النائب السابق وليد جنبلاط أفصح أن لا حلّ قريباً إذ قال إنّ الوضع يستأهل التنبّه، فما تشهده غزّة غير مرتبط بما يشهده الجنوب، وإسرائيل لا تعمل على الربط بين الجبهتين. اختلف ما قاله خلال لقاءاته عن سياق ما سبق وعبّر عنه.  

ما أراد قوله ونيل الإجابة عنه كان في عين التينة وحدها ويبقى سرّ الإجابة في عهدة رئيس المجلس، الذي يكشف عنه لشريكه في "الثنائية"، أي حزب الله.


هو الذي تبنّى نظرية ربط الجبهتين، وقال إنّ مسعاه يبدأ متى تم ّالاتفاق على هدنة في غزّة. وقال "حين تنتهي الحرب في غزة تسري الهدنة حكماً على لبنان ويصبح بالإمكان التفاهم على مسألة الحدود وأمور أخرى". كان جديده هذه المرة التهويل على المقاومة. خرج من معادلته السابقة وقال إنّ اسرائيل تفصل بين الجبهتين ويجب وقف الجبهة تجنباً لحرب غير محدودة. لعب على وتر الخلافات الداخلية وأعطى كلّ طرف التقاه ما يفضّل سماعه. مع المعارضة شجّع على دور الجيش وانتشاره على الحدود الجنوبية. وشدّد على ضرورة وقف هجمات حزب الله كي لا تشنّ إسرائيل حرباً لن يتحمّل لبنان تبعاتها. جُمل قليلة قالها قبل أن يمضي بقيّة الوقت مستمعاً إلى شكوى المعارضة من حزب الله، فأظهر النواب كلّ غضبهم في لقاء "فضفضة" تحوّل فيه الموفد الأميركي إلى حائط مبكى. 

في عين التينة استفاض في الشرح وقدّم تصوّراً أميركيا للحلّ، ولم يخرج بجواب شافٍ يلاقي أمنياته. فهم أنّ أيّ شرط نجاح أي طرح يتعلّق بالوضع في الجنوب هو وقف الحرب في غزّة.  

زيارته المفاجئة كانت موضع تساؤل حزب الله بشأن الجديد الذي يحمله خاصّة أنّ المباحثات بين حماس وإسرائيل لا تزال معقّدة، والاتفاق على الهدنة يلزمه المزيد من الوقت. فكان له تفسيره. على وقع المواجهات الحامية والضربات الموجعة التي منيت بها إسرائيل جاء هوكستين يطلب عودة الحال إلى ما كان عليه في الماضي وعدم توسعة رقعة الردّ إلى الدّاخل الإسرائيلي. 

حزب الله الذي يرفض التفاوض المباشر مع الأميركيين، لا يعتبر أنّ بإمكان الجانب الأميركي أن يكون وسيطاً نزيهاً، بل وكيل إسرائيل المتحيّز إلى مطالبها. لا شيء اسمه حرب محدودة في قاموس حزب الله، فالحرب هي الحرب، والأهم أن لا شيء اسمه وقف الحرب في غزّة من دون الجنوب. سبق لحزب الله أن تبلغ من هوكستين عبر موفدين بألّا يُنصت إلى ما يقوله المسؤولون الإسرائيليون، وأنّ الجبهتين مرتبطتان. فما الذي استجدّ؟ 

يقول مطّلعون على أجواء حزب الله إنّ الوضع في الجنوب شهد في الأسبوعين الأخيرين تصعيداً غير مسبوق. منيت إسرائيل بضربات موجعة في عمقها وصدّ حزب الله محاولتي تسلّل بري واستخدم صورايخ لم يسبق أن استخدمها من قبل، أفصحت عن جانب من قدراته العسكرية. وهذا ما استدعى حضوراً عاجلاً لموفد الرئيس الأميركي في مسعى لتلافي التصعيد والتهويل بالقول إن جبهة غزّة غير مرتبطة بجبهة الجنوب ويجب تلافي الحرب. 

ليست المرة الأولى التي يهوّل فيها المسؤولون الأميركيون بالحرب عبر هوكستين وآخرين. لكنّ زيارته كلها لم "تقرّش" بما تضمنته في حسابات حزب الله الذي لا يزال على موقفه، وهو  أنّ عملياته تتوقّف لحظة الإعلان عن الهدنة في غزّة، إلّا في حال أكملت إسرائيل عدوانها واستمرت في استهداف القرى الجنوبية، فحينذاك سيكون ملزماً بالردّ بغضّ النظر إلى أين يمكن أن يؤدّي ذلك. 

يكرّر حزب الله موقفه من أنّ التوصّل إلى هدنة بشأن غزة سيعني حكماً هدنة على الجبهة الجنوبية. لكن إذا رفضت إسرائيل مثل هذه المعادلة، فالردّ سيكون قاسياً. ليس لديه نيات تصعيدية. ولكن الردّ سيكون حتمياً أياً كانت نتائجه ولو أنّ اجواءه والمحيطين به يرجّحون كفّة التزام العدو، نظراً إلى الرسائل الكثيرة التي تبلّغها من أنّ إسرائيل ليست في وارد خوض حرب شاملة. 

الصورة غير واضحة. مفاوضات الهدنة بين إسرائيل وحماس لا تزال متعثّرة. جبهة الجنوب تزداد اشتعالاً مع تقصّد اسرائيل استهداف المدنيين في منازلهم لكأنّها تسعى إلى جرّ حزب الله إلى الحرب الواسعة، وتجهد لتكريس مفهوم جديد قبل الاتفاق بحيث تطمئن إلى عدم وجود حزب الله على الشريط المحاذي. ردّ حزب الله كان جازماً، أبلغه بري إلى هوكستين، ومختصر "اوقفوا حرب غزّة ولا مانع من الشروع في التفاوض". 

معلومات حزب الله تفيد بأنّ إسرائيل لا تريد الحرب وبأنّ أميركا ستردعها. هوكستين حمل اقتراحات لم تتبلور في ورقة رسمية، وسيبحث بشأنها مع رئيس الحكومة الإسرائيلية ثم يعود بالجواب بعد إعلان الهدنة. وإلى أن يحين ذلك سيبقى الوضع في الجنوب مشتعلاً.