60 عاماً في الشأن العام، بدءاً بترؤسه للاتحاد الوطني للطلبة اللبنانيين عام 1963، مروراً بعمله إلى جانب الإمام موسى الصدر، ثمّ تولّيه قيادة "حركة أمل" من العام 1980 في خضمّ زمن الحرب والاقتتال. 40 عاماً على دخوله السلطة الرسمية في لبنان وزيراً للعدل وكذلك للموارد المائية والكهربائية عام 1984 عقب مشاركته في مؤتمر الحوار اللبناني في جولتي جنيف في 31 -10-1983 ولوزان في 12-3-1984، لم يتعب نبيه برّي أو يكلّ. كلّ أبناء جيله ترجّلوا عن المواقع الرسمية فيما هو يواصل تحطيم أرقامه القياسية كصاحب أطول ولاية في رئاسة البرلمان عالمياً جرّاء ترؤسه المتواصل لمجلس النواب اللبناني منذ العام 1992. 

فبعدما عرفه اللبنانيون أحد زعماء الحرب الشرسين، أطلّ عليهم في جمهورية الطائف سياسياً محنّكاً يبتدع المخارج للأزمات ويخرج الحلول من جعبته كـ"الأرانب" من قبّعة الساحر، متسلّحاً بسرعة بديهته وخفّة ظلّه والأهمّ مستنداً إلى وحدة طائفته بعد اتّفاق دمشق 2 الذي أوقف حمام الدم بين "أمل" و"حزب الله" بدءاً من 9-11-1990 إثر توقيع اتفاق سلام بين الجانبين برعاية سوريا وإيران. 

كان برّي الثابتة في ترويكا كلّ العهود في جمهورية "الطائف"، المحصّل الشرس لحصّة طائفته من الدولة وتوظيفاتها وتلزيماتها بصراحة مطلقة - من منطلق أنّه "ما دام غيرنا يأخذ حصة فنحن متمسكون بحصتنا" - والنافذة الشيعية المشرّعة على المجتمع الدولي "بالتكافل والتضامن" مع "حزب الله" وتوزيع الأدوار الذكي. حتّى في خضمّ الانقسام العمودي بين "8 و 14 آذار"، نجح برّي بالحفاظ على جسور التواصل مع بعض أقطاب "14 آذار" أكان رفيق دربه وليد جنبلاط أو رئيس "تيار المستقبل" سعد الحريري. 

كان برّي الثابتة في ترويكا كلّ العهود في جمهورية "الطائف"، المحصّل الشرس لحصّة طائفته من الدولة وتوظيفاتها وتلزيماتها بصراحة مطلقة

حتّى مع "القوات اللبنانية"، تمكّن برّي من نسج علاقة متمايزة ولو مرحلياً. فرئيسها سمير جعجع كان يحاول عبر هذه العلاقة أن يؤكّد أنّ خلافه السياسي الحاد ليس مع الطائفة الشيعية بل مع "حزب الله" بسبب ارتباطه الأيديولوجي المطلق مع الجمهورية الإسلامية الإيرانية ووضعه كلّ طاقاته في خدمة أجندتها. عوّل جعجع على الطابع اللبناني لحركة "أمل" كوريثة للإمام موسى الصدر. ففي حين أنّ "أمل" هي أفواج المقاومة اللبنانية فإنّ "حزب الله" هو المقاومة الإسلامية في لبنان وليس اللبنانية. الأمر لا يقتصر على الولاء السياسي، بل على البعدين الثقافي والفكري إذ على خلاف "أمل"، يمعن "الحزب" في إدخال مفاهيم وعادات لا تمتّ إلى المكونّ الشيعي اللبناني بصلة. 

لكنّ وحدة "الثنائي الشيعي" كانت فوق كلّ اعتبار، وحتى اعتبارات الدولة والمؤسسات والشراكة في المواطنة، إذ إنّ التمايز كان يسقط في المحطات المفصلية ويستشرس برّي إلى جانب "الحزب". المشاركة في "7 أيار" وتعطيل مجلس النواب عام 2014 حتّى نجاح "الحزب" بتأمين المناخ لإيصال مرشّحه ميشال عون خير مثال. ربّما يدرك برّي ويتوجّس من واقع الأحجام بين "الحزب" و"الحركة"، وهذه الحقيقة في تصاعد مستدام وأسهمت طبيعة القانون الانتخابي المعتمد منذ انتخابات 2018 في تظهير الأحجام بشكل جليل في صناديق الاقتراع. 

هذه الخلاصة التي أفضت إليها الممارسة، جعلت مراعاة برّي تسقط من قاموس "القوات" وقوى المعارضة. مع التذكير بأنّ "القوات اللبنانية" لم تنتخب برّي يوماً لرئاسة المجلس، ولم تتحالف مع حركة "أمل" في أيّة انتخابات نيابية منذ خروج جعجع من معتقله في 26-7-2005. فالعلاقة بينهما قائمة على تنظيم الاختلاف. المواجهة السياسية مع برّي تطوّرت خصوصاً مع ما أفرزته انتخابات العام 2022 النيابية من "موزاييك" سياسي في ساحة النجمة. فبرّي هذا المرة انتخب بالحدّ الأدنى من الأصوات حاصداً النصف زائداً واحداً ليس غير،  أي 65 صوتاً في مجلس الـ128. 

وفي معركة الانتخابات الرئاسية الدائرة اليوم سقط أكثر من "أرنب" لبري وأكثر من "كرة ملتهبة" ردّت إليه:  
* أرنب "طاولة الحوار" الذي اعتاد برّي سحبه كما في العام 2006 لم يستطع الهرولة، مع رفض الكتلة النيابية الأكبر "الجمهورية القوية" السير به. 
* محاولة برّي حرف الأنظار عن حقيقة الأزمة الرئاسية والمرتبطة بالخلاف السياسي العميق بين معسكري "الممانعة" و"السيادة" وقوله إنّ "الخلاف ماروني-ماروني" فشلت حين تقاطع جعجع و"المعارضة" مع باسيل على ترشيح جهاد أزعور. حينذاك أحرج برّي ودعا إلى جلسة انتخاب 14-6-2023. 
* أخيراً، إعطاء برّي بادرة تكتّل "الاعتدال الوطني" الرئاسية الضوء الأخضر معوّلاً على عدم استطاعة التكتل تخطّي حاجز معراب. لكن المفاجأة كانت في سير "القوات" بالمبادرة، وهذا ما أربك بري إذ "انقلب السحر على الساحر" واضطر إلى أن يتنصّل منها. 

يبدو أنّ زمن "أرانب" برّي قد ولّى، وأصبحت مساعيه ومبادراته "ع السكين يا بطيخ" أي غير مضمونة النتائج، ما يعني أنّ هامش مناورة "الثنائي" الشيعي المعتاد قد تقلّص محلياً. فهل يقارب بجرأة هذا الواقع أم يلجأ الى الإنكار؟