لطالما رضي الشعب اللبناني على تلاوينه وأطيافه بالحدّ الأدنى، وليس بالأجور فحسب، بل في كلّ ما تقدّمه الدولة ككيان مؤسساتي للمواطنين العزّل. ولا بد من التنويه أنّ المواطن المسلّح بزعيم طائفة أو بحزب أو حتى بسلاح فردي لم يكن ليرضى يوماً إلّا بالحدّ الأقصى، منطلقاً من منطق القوة نفسه الذي تمارسه السلطات على مواطنيها العاديين في تحصيل ضرائبها ورسومها، ولكنها تغض النّظر عن المواطنين الإكسترا المحظيين في كلّ ما يمارسونه من تسلّط واعتداء ووضع يد على الحقّ العام، من الأملاك البحرية والنهرية إلى المشاعات وصولاً إلى حقوق المودعين في المصارف وغيرها من الحقوق وهي أكثر من أن تتسع لها مجلّدات التحقيق في صناديق الدولة وحساباتها، وهو التحقيق المعلّق أو المهمل في أدراج النسيان رغم كل الضياع والانهيار الذي تعانيه البلاد.

بلاد استبيحت كلّ الحدود فيها ولم يبقَ إلّا الحدّ الأدنى للأجور كحد فاصل بين الحياة بأقلّ مقوّماتها وبين الموت لانعدام القدرة على الاستشفاء أو تلقّي العلاج أو قهراً أو جوعاً أو خوفاً لا فرق. وهذا الرفع يقابله رفع في أسعار كلّ شيء، وتدنّي في مستوى التقديمات والمعونات وحتّى تدنّي قي قدرة الدولة ومؤسساتها على الاستمرار والتطّور والنمو. ولكن الرهان دوماً على "الحلول المستوردة" أو فتح باب الاستدانة من جديد في ظل تسوية تعطي الأمن للقاطنين على هذه الأرض مقابل تخلّيهم عن كلّ حقوقهم لصالح "الوطن". والوطن هنا كلمة فضفاضة تتسع لكلّ شيء إلّا للمواطن.

منطق "قوّة لبنان في ضعفه" منطق مستمدّ من فكرة الحدّ الأدنى، وهو نفسه منطق الاعتماد على الشرعية الدولية من دون أوراق قوّة أو خطّة بديلة. رغم اليقين بأن "الفيتو" جاهز لمنع تحقيق أي تقدّم في أيّ مسار لا يضمن مصالح "إسرائيل أولاً"، يحدّثك البعض عن مجلس الأمن والأمم المتحدة والمحكمة الدولية، وهي نفسها المنظمات التي عجزت عن تحقيق القرار 425 أو منع الخروقات الإسرائيلية المستمرة للقرار 1701، أو تحرير مزارع شبعا وتلال كفرشوبا أو إدانة الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة على جرائمها أو على إحدى جرائمها بالحدّ الأدنى. مع العلم أننا كنّا سنرضى بالحد الأدنى. 

بلاد استبيحت كلّ الحدود فيها ولم يبقَ إلّا الحدّ الأدنى للأجور كحد فاصل بين الحياة بأقلّ مقوّماتها وبين الموت

الانتماء للوطن أيضاً في حدّه الأدنى، فالتركيبة القائمة عقب انتهاء الطائف حفظت لكلّ زعامة دور الاهتمام بجماعتها وتمثيلها في جلسات تقاسم الحصص والنفوذ، ولا ضرورة لاستعادة ما قيل عن الدولة كبقرة حلوب ولا رواية "عالسكين يا بطيخ". فنتائج تلك الحقبة من ديون وهدر وفساد لم يعد ضرباً من ضروب التهويل، بل واقعاً يعيشه اللبنانيون منذ 17 تشرين 2019. 

الحد الأدنى للأجور في بلد يعيش الحد الأقصى من الانهيار. وتعيش سلطاته حالة من الإنكار. مسؤولون يمارسون عملهم وفق المنطق نفسه الذي رهن البلاد والعباد وأفقرهم. سلطة تعيش حالة من الانتظار والتعويل على حلول خارجية يمكن أن تمدّد لها استمرارها في عملها. رغم أن الحكومة الحالية هي حكومة تصريف أعمال فهي مستقيلة ووفق الدستور "لا تمارس الحكومة صلاحياتها قبل نيلها الثقة، ولا بعد استقالتها أو اعتبارها مستقيلة إلا بالمعنى الضيق لتصريف الأعمال" ولكن وفقاً لاجتهاد مجلس شورى الدولة "لا يمكن لاستقالة الحكومة أن تؤدي إلى شلل في الحياة اليومية الاقتصادية والاجتماعية للمواطن، ما قد يستلزم استمرارية العمل الحكومي بالحد الأدنى". وها هي حكومة الحد الأدنى تمارس عملها بشكل شبه طبيعي رغم أنها لم تعد مسؤولة قانوناً أمام مجلس النواب. فمن يحاسب الحكومة المستقيلة إن أخطأت وهل يكون العقاب بإقالتها أو بإقالة الوزير وأصلا كل الحكومة مستقيلة؟ 

هو الحدّ الأدنى الذي توفّره السلطة وما دونه دوماً في كلّ المجالات. إنّها الحياة في حدّها الأدنى في أرض حلّت بها اللعنة. وكلّما تضيق الحياة على اللبنانيين ينظرون جنوباً حيث يرون أن الفلسطينيين لا يجدون السبيل إلى الحياة نفسها ولو كانت في أدنى حدودها، وحتّى وطنهم سرقوه منهم. هي المقارنة بين الموت في فلسطين وبين الحياة في حدّها الأدنى في لبنان.