يؤكّد ديبلوماسيون وسياسيون أنّ طبخة الاستحقاق الرئاسي على وشك النضج، ويمكن أن تكون هناك مفاجأة فيها قبل حلول شهر رمضان، لأنّ المعنيين في الداخل والخارج قرّروا استعجال أن يكون للبنان رئيس لخشية لديهم من حرب يمكن إسرائيل أن تشنّها عليه بعد رمضان، إذ تكون قد انتهت الهدنة التي سيعلن عنها في أيّ وقت في غزّة قبل حلول الشهرالفضيل... في حين تحدّثت صحيفة "يديعوت احرونوت" عن أنّ "الحكومة الإسرائيلية ستمدّد خطة إجلاء نحو 50 ألف مستوطن من المستعمرات المحاذية للبنان".

يدور في الأوساط السياسية على اختلاف تلاوينها كلام عن هذا "الحلّ الرئاسي" الجاري إعداده في المطابخ السياسية والديبلوماسية، والبعض يقول إنّه أنجز وإنّ بعض الفرقاء السياسيين بدأوا يفتّشون عن المخارج التي سيقنعون بها الرأي العام لتبرير نزولهم عن الشجرة التي كانوا صعدوا إليها بمواقف باتوا أسراها، وبات لا يمكنهم التراجع عنها إلّا بمساعدة آخرين أو بضمانات يقدّمها إليهم بعض طبّاخي الحلول.

وتكشف الصّورة من الخارج أنّ توافقاً قد حصل، أو أوشك أن يحصل، على الإخراج الرئاسي اللبناني، وقد يكون من الممهدات له إعلان قصر الايليزيه قبل يومين أنّ الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون ونظيره الأميركي جو بايدن أكّدا "تصميمهما المشترك على تجنّب توسّع رقعة النزاع إقليمياً، خصوصاً في لبنان".

وكان اللافت في هذا السياق ما أعلنه القائد السابق لـ"القوات اللبنانية" فؤاد أبو ناضر من "وجود مشروع تسوية يُناقش في الكواليس يفترض الإتيان برئيس تيار "المردة" سليمان فرنجية إلى الرئاسة مقابل انسحاب إسرائيلي من بعض القرى المتنازع عليها ووقف حزب الله حربه على إسرائيل". وأكّد أنّ "الأحزاب المسيحية هي خارج هذه التسوية".

وقد تزامن هذا الإعلان مع ما كشفته أوساط ديبلوماسية من أنّ هناك حلّاً للاستحقاق الرئاسي يجري إعداده في الكواليس الديبلوماسية، ينطلق من ضرورة إقامة سلطة لبنانية جديدة برئاسة رئيس للجمهورية تستطيع أن تواجه سلماً أو حرباً كلّ التطورات على الجبهة الجنوبية، وملاقاة التسويات الإقليمية المنتظرة بما يفيد لبنان ولا تكون على حسابه.

إن هناك سعياً جدّياً للاتفاق على انتخاب رئيس قبل حلول رمضان إذا أمكن

ويكشف أحد السياسيين العارفين بما يدور في بعض الكواليس الديبلوماسية أنّ العواصم المعنيّة ولا سيّما منها عواصم المجموعة الخماسية العربية ـ الدولية المهتمّة بالشأن اللبناني باتت مقتنعة بأنّه لا يمكن إيجاد حلّ للاستحقاق الرئاسي من دون حصول تفاهم مزدوج سياسي وعسكري مع "الثنائي الشيعي" يبدأ بالجبهة الجنوبية اللبنانية. فالثنائي يريد أن يتمّ انتخاب رئيس للجمهورية تلائم مواصفاته طبيعة المرحلة الداخلية والإقليمية والدولية، بحيث لا يطعن المقاومة في ظهرها ويحافظ عليها كقوّة ردع للدفاع عن لبنان في مواجهة أيّ اعتداء إسرائيلي أو أيّة مواجهة لأيّ خطر خارجي من أيّة جهة أتى. وهنا فإنّ العواصم الخارجية ولا سيّما منها الغربية المتوسطة بين بيروت وتل أبيب تريد من لبنان تطبيق القرار 1701 على نحو "يطمئن" إسرائيل إلى أمنها، مع العلم أنّها هي التي تخرق القرار منذ صدوره عام 2006 ( هناك 30 ألف خرق سجّله لبنان وأبلغه إلى الأمم المتّحدة) وتطرح هذه العواصم في الكواليس معادلة: "سليمان مقابل الرضوان" أي أنّها تقبل برئيس تيار "المردة" سليمان فرنجية (الذي يدعم "الثنائي الشيعي" وحلفاؤه ترشيحه لرئاسة الجمهورية ويتمسّكون به) أن ينتخب رئيساً للجمهورية في مقابل أن يسحب حزب الله "قوة الرضوان" (وهي القوة العسكرية الضاربة لديه) من منطقة جنوب الليطاني حسب ما تطالب إسرائيل لتأمين عودة سكان المستوطنات الشمالية إلى منازلهم التي نزحوا منها غداة عملية "طوفان الأقصى"، والبالغ عددهم أكثر من 120 ألفاً، حسب إحصاءات تلّ أبيب.

ولكن "الثنائي الشيعي" يطلب حتّى يقبل بهذا الانسحاب، أن ينفّذ القرار الدولي 1701 على أساس أن تكون المنطقة العازلة على جانبي الحدود وليس في الجانب اللبناني فقط، كما يطلب (وبالطبع لبنان الرسمي والشعبي يطلب في الأساس) انسحاب إسرائيل من مزارع شبعا وخراج بلدة الماري وتلال كفرشوبا المحتلّة وإزالة اعتداءات إسرائيل على 13 نقطة على الحدود المرسّمة منذ العام 1923 والمثبتة بموجب اتفاقية الهدنة المعقودة في آذار 1949، وهذا ما يحقّق حلّاً عملياً للوضع على جانبي الحدود.

ويقول هذا السياسي إن هناك سعياً جدّياً للاتفاق على انتخاب رئيس قبل حلول رمضان إذا أمكن، سواء حصل الاتفاق على الترتيبات الأمنية على الحدود الجنوبية أم لا، لأنّه يجب أن يكون هناك رئيس وسلطة جديدة لبنانية هي صاحبة الصلاحية بهذا الأمر سلماً أو حرباً. ولذلك يضيف هذا السياسي أنّ هناك مناخ "سين ـ سين" (سعودي ـ سوري) يظلّل كلّ ما يجري وبدأ ينعكس على مواقف الفرقاء السياسيين ولا سيما منهم المعارضين لترشيح فرنجية. ويندرج في هذا السياق التواصل الجاري بين رئيس مجلس النواب نبيه بري ورئيس "التيار الوطني الحر" النائب جبران باسيل، إذ قطع هذا التواصل شوطاً كبيراً في اتجاه اتفاق الجانبين على انعقاد طاولة حوار أو تشاور في سببل إنجاز الاستحقاق الرئاسي. وقد تمّ التواصل هذه المرة بين الجانبين بواسطة النائب غسان عطالله وسفيرة لبنان في قطر فرح بري، بحسب مقرّبين من باسيل، إلى نتائج ملموسة إلى درجة أنّ باسيل بات مستعداً للمشاركة في الحوار عندما يدعو بري إليه. وكشف هؤلاء القريبون أنّ الرجلين اتفقا على أن لا تكون هناك شروط مسبقة لحصول الحوار، فبرّي وحلفاؤه لن يشترطوا على باسيل تغيير موقفه والقبول بترشيح فرنجية، وفي المقابل، فإنّ باسيل لن يشترط على برّي وحلفائه أن يتخلّوا عن ترشيحهم لفرنجية.

وفي هذه اللحظة السياسية تحرّك تكتّل "الاعتدال الوطني" ودخل على خطّ التواصل بين برّي وباسيل طارحاً مبادرة حوارية تقضي بالذهاب إلى الحوار في مجلس النواب حتّى إذا تمّ التوافق على الاستحقاق الرئاسي ينعقد المجلس في دورات انتخابية متتالية لا تنتهي إلّا بانتخاب رئيس للجمهورية، فزار التكتّل لهذه الغاية رئيس مجلس النواب أوّلاً مبلغاً إليه هذه المبادرة، لأنّه يرى أنّ "البلد في خطر كبير، وأنّ الأوضاع تتدهور، ويجب إنهاء هذا التدهور" بانتخاب رئيس وإقامة سلطة لانقاذ البلاد من الانهيار.

وبعدما توافق الطرفان على ضرورة الحوار، نصح برّي التكتل بالاجتماع مع باسيل، وبالفعل حصل اللقاء وتوافق الجانبان على الحوار، فتأمّن من حيث المبدأ "العامل الميثاقي" لهذا الحوار لما يمثّله كلّ من "التيار الوطني الحر" مسيحياً، وثنائي حزب الله وحركة "أمل" شيعياً، وتكتّل "الاعتدال الوطني" سنّياً. واعتقد البعض أنّه يمكن انعقاده من دون حضور ّ"القوات اللبنانية" إذا ظلّت على موقفها المعارض.

لكن تكتّل "الاعتدال" فضّل أن تكون دائرة المشاركين في الحوار أوسع أكثر، فبادر إلى زيارة رئيس حزب "القوات اللبنانية" الدكتور سمير جعجع الذي بادر التكتّل بإعلان تأييده الحوار، وقال بعد اللقاء إنّه وافق على مبادرة التكتّل الحوارية "التي تقوم على لقاء نوّاب من الكتل كافّة في المجلس النيابي، للمطالبة بجلسة انتخاب مفتوحة بدورات متتالية، ونتشاور على هامشها بموضوع الرّئاسة"، مذكّراً بأنّ "اللجنة الخماسية تدعو منذ اللّحظة الأولى إلى الذّهاب لانتخاب رئيس"، وكاشفاً أنّ تكتل الاعتدال أبلغ إليه أنّه "أخذ كلامًا من رئيس مجلس النّواب نبيه بري بأنّ النواب إذا اجتمعوا واتفقوا على المطالبة بجلسة انتخاب مفتوحة بجلسات متتالية، فهو سيدعو إليها، وهذا ما كنّا نطالب به منذ اليوم الأوّل".

ويعتقد سياسي مطّلع على أجواء الاتصالات أنّ "التيار الوطني الحر" و"القوات اللبنانية" قد وصلا إلى مرحلة لم يعد في إمكانهما إطالة أمد الفراغ الرئاسي، وبات عليهما أن يحسما خياراتهما الرئاسية النهائية ليبني الآخرون على الشيء مقتضاه بالاتفاق معهما أو بالتنافس. فهما لم يتمكّنا منذ ما قبل انتهاء ولاية الرئيس ميشال عون من الاتفاق معاً أو مع فرقاء آخرين على دعم مرشّح جدّي (وليس للمناورة) يمكنهم إيصاله إلى سدّة الرئاسة. وبالتالي، فإنّ الاستمرار في المراوحة بات يضرّهما ويضرّ البلاد والجميع وحتّى المجموعة الخماسية نفسها.

ويقول هذا السياسي إنّه في حال ثبوت أنّ معادلة "سليمان مقابل الرضوان" هي الحلّ المطروح، فإنّ مواقف "التيار" و"القوات" المتحولة ايجاباً إزاء الحوار والمتأتّية من التواصل بين برّي وباسيل ومن اللقاء بين جعجع وتكتّل "الاعتدال الوطني"، تدلّ إلى أنّ أحدهما سيؤيّد هذه المعادلة. ويقول قريبون من باسيل إنّه لن يصوّت شخصياً لفرنجية انسجاماً مع موقفه المعلن، لكنّه لن يمنع أيّاً من نوّاب تكتّل "لبنان القوي" من التصويت له. ولكنّه قد يتّخذ بحقّه تدبيراً مسلكياً لاحقاً (الفصل من التكتل أو الفصل من التيار إذا كان حزبياً). أمّا من جهة "القوات" فإنّ موقفها تصويتاً لفرنجية من عدمه يبقى مرهوناً بما يمكن أن يكون عليه موقف الراعي الإقليمي.