في تطوّر ميداني غير مسبوق، بلغت الاعتداءات الإسرائيلية بلدة كفرمان الجنوبية للمرة الأولى منذ بدء المواجهات في جنوب لبنان. سبق ذلك تحليق للطائرات فوق مدينة جبيل ومناطق كسروان مع معلومات بثّها الإعلام الاسرائيلي تدّعي انتشاراً عسكرياً لحزب الله في المنطقة. وسّعت إسرائيل دائرة اعتداءاتها وبدأت بشنّ حرب نفسية هدفها تعزيز الانشقاق اللبناني حول الحرب التي يخوضها حزب الله في مواجهتها جنوباً، وتريد الضغط لتحسين شروط تفاوضها بشأن عودة المستوطنين إلى حدودها الشمالية. نقلت صحيفة "إسرائيل اليوم" أنّ الضوء الأخضر أُعطي ليتمكّن سكّان الشمال من العودة إلى منازلهم. أعقب ذلك موقف عبّر عنه رئيس وزراء إسرائيل يقول إنّ إسرائيل لن تفوّت سبيلاً لإعادتهم.

تطوّرات ميدانية، وإن كانت تشي بنيّة إسرائيل شنّ حرب قريبة على لبنان، فإنّ تقديرات حزب الله لا تؤكّدها، وإن كان مستعدّاً لخوض الحرب متى وجد أن لا بد منها. حتّى اليوم تتقدّم احتمالات التصعيد على وقف إطلاق النار سواء في غزّة أو في جنوب لبنان، أو أقلّه حرب الردّ والردّ المقابل بين إسرائيل وحزب الله. معادلة الدم بالدم التي هدّد بها الأمين العام لحزب الله السيد حسن نصر الله باتت واقعاً يترجم في الميدان مع فرق تكتّم إسرائيل على حجم الضربات التي تتعرّض لها في الداخل وحجم الخسائر التي تلحق بالأرواح والممتلكات.

لا تقديرات عن المدى الزمني لهذه الحرب. المفاوضات لوقف النّار باءت بالفشل. تقول مصادر مواكبة إنّ وقف إطلاق النّار ليس ناجحاً إلى اليوم. خلافاً لما كانت عليه الأجواء قبل أسبوعين إذ كانت فرضية التوصّل إلى وقف النار متقدّمة، تراجع بنيامين نتنياهو عن موقفه ورفض شروط حماس وانسحب الوفد الإسرائيلي من المفاوضات. اعتبر رئيس وزراء اسرائيل أنّ القبول بشروط حماس يمنحها نصراً فتراجع عن التفاوض معها. تزامن ذلك مع موقف لمجلس الأمن بالتصويت ضدّ قرار وقف إطلاق النار وإعطاء أميركا ضوءاً أخضر لإسرائيل بإكمال حربها إلى حين القبول بإطلاق الأسرى. وتقول مصادر في الأمم المتحدة إنّ ضغط الولايات المتحدة على إسرائيل ليس جدّيّاً حتى الساعة، بدليل رفض وقف إطلاق النار.

لا يجزم حزب الله بأنّ الحرب شارفت نهايتها لأنّ الاتفاق لم ينضج بعد. استناداً إلى تجربة حرب نيسان استغرقت المفاوضات وقتاً طويلاً إلى أن تمّ التوقيع على الاتفاق على وقع التصعيد الميداني. احتمال تكرار التجربة موجود. يعتبر حزب الله أنّ المفاوضات ستستغرق وقتاً وإسرائيل تبحث عن نصر بأيّ ثمن. ما يتخوّف منه أن يطول وقت التفاوض وتبقى الحرب في ذروتها، أو يقترب الاتفاق فتصعّد إسرائيل جبهتها في غزّة وجنوب لبنان. وفي الحالتين الوضع غير مطمئن.

يصرّ حزب الله على ربط جبهة الجنوب بجبهة غزّة، ويؤكّد أنّ نهاية هذه الجبهة ستكون حتمية متى أوقفت إسرائيل اعتداءاتها على غزّة. لكن ماذا لو لم تتعامل إسرائيل بموجب هذا المنطق مع جبهة لبنان وأرادت الانتقام بفصل الجبهتين واستمرّت بعدوانها على الجنوب؟ وماذا في اليوم التالي لما بعد وقف إطلاق النار في غزّة بالنسبة إلى جبهة الجنوب؟

في قراءة حزب الله، إمّا تلتزم إسرائيل وقف إطلاق النار في غزّة وتعتبره سارياً على جبهة الجنوب، أو تلتزم وقف إطلاق النار في غزّة، لكنّها تبقي جبهة الجنوب ملتهبة في انتظار ما ستنتجه المفاوضات التي يخوضها موفدها آموس هوكستين الذي يأمل التوصّل إلى اتفاق شبيه باتفاق نيسان يؤدّي إلى وقف الحرب مع ضمانات تؤمّن عودة الاستقرار إلى جبهة الجنوب كي يتمكّن سكّان الشمال من العودة.

يدرك حزب الله أنّ لإسرائيل، حسب ما تقول، بنك أهداف، وهي لم تنته من تصفية حساباتها بعد

ويندرج في مطالب إسرائيل، تراجع قوّة الرضوان عن القرى الحدودية المحاذية وتسلّم "اليونفيل" أو الجيش اللبناني بدلاً منها. ويصرّ حزب الله بالمقابل على انسحاب إسرائيل من المناطق التي تحتلّها في مزارع شبعا وتلال كفرشوبا والتراجع عن نقطة B1 الحدودية، ووقف الطلعات الجوية للطيران الحربي الإسرائيلي. يتمّ التوافق على ذلك من خلال مفاوضات غير مباشرة. وهذا هو الاحتمال الأكبر الذي يعزّز حزب الله احتمالاته، بحيث يتمّ الذهاب باتجاه وقف إطلاق النّار ولكن إلى حين تنضج المفاوضات. والخوف هنا من أنّ الفترة الفاصلة بين التصعيد ووقف إطلاق النار تشهد اضطرابا قوياً.

يدرك حزب الله أنّ لإسرائيل، حسب ما تقول، بنك أهداف، وهي لم تنته من تصفية حساباتها بعد، أو أنّها تريد المفاوضات تحت النار وتقوم بشنّ ضربات في مناطق مختلفة. وفي هذه الحالة، ستُواجه بردّ يوازي ضرباتها ونكون أمام سيناريو ضربة مقابل ضربة. واحتمال كهذا ضعيف وفقاً لسياق التطورات. احتمال آخر يراه حزب الله ضعيفاً، وهو أن تتوقف الحرب في غزّة وتبقى جبهة الجنوب مندلعة ما سيؤجّج الحرب ويضطر ساعتئذ إلى الرد على الاعتداءات بالمثل وتنزلق الأوضاع إلى حرب إقليمية شاملة. لكن، بحسب رؤيته، فإن لا وضع الجيش الاسرائيلي يسمح ولا قدرته على اتخاذ قرار كهذا واردة. ناهيك بأنّ الحرب خيار مستبعد بالنسبة إلى الولايات المتحدة الأميركية. كلّ المؤشرات تفيد بأن لا قدرة لإسرائيل على خوض حرب على جبهتين ولا قرار بذلك، وكذلك فإن لا نية لحزب الله الذهاب نحو خيار الحرب إلّا إذا أصرّت عليها إسرائيل. ولذلك حين تحدّث أمينه العام في خطابه الأخير عن استهداف كريات شمونا وإيلات فمن منطق الردع وليس التهديد بالحرب. وإذا كان الأميركي حريصاً على عدم توسعة الحرب فلن يسمح حكماً بأن تبقي إسرائيل اعتداءاتها بعد وقف الحرب في غزة.

إذا كان تلازم الجبهتين حرباً وسلماً مسلّماً به، فما ليس معلوماً هو موعد الاتفاق بشأن وقف الحرب على غزة، وكيف ستسعى إسرائيل إلى الخروج منتصرة من الحرب بأيّ شكل من الأشكال ما دامت تتعاطى على أنّ أيّ هدف تتمكّن منه حالياً ضد حزب الله يعدّ انتصاراً لها.