كمّ من عملية اغتيال عبر التاريخ مرّت مرور الكرام، في حين أن أخرى غيّرت مجرى الأحداث. الأمر لا يرتبط بأهمية المستهدف ودوره فقط، بل كذلك بالمناخ العام القائم والـ"مومنتوم" (momentum). فاعتياد المجرم فعلته والنجاة من المحاسبة يجعلانه لا يقدّر عواقبها ويستخفّ بنتائجها وتداعياتها غير آبه بتوقيتها السياسي. هذا هو، حكماً، واقع حال من اغتال الرئيس رفيق الحريري في خضمّ الضغط الدولي المتمثل بالقرار 1559. 

هذا القرار الذي أبصر النور في 2 أيلول 2004 عشية تمديد النظام السوري للرئيس السابق إميل لحود، لم يأتِ من فراغ بل جراء مسار تراكمي سيادي منذ الانقلاب على "الطائف". مسار خرج إلى العلن بشكل جليّ مع نداء أيلول 2000 للمطارنة الموارنة ولاقاهم يومذاك رئيس "الحزب التقدمي الاشتراكي" وليد جنبلاط بالمطالبة من تحت قبّة البرلمان في تشرين الثاني 2000 بإعادة انتشار القوات السورية في لبنان، وبوقف تدخّلات دمشق في الحياة السياسية اللبنانية. 

أخذ هذا المسار إطاراً سياسياً - وإن بطابع طائفي أولاً – عبر تأسيس "لقاء قرنة شهوان" في نيسان 2001. ثم نجح في كسب بعد وطني عبر "لقاء البريستول" الذي عقد للمرة الأولى في 13 كانون الأول 2004 وأوفد يومذاك الحريري النائبين باسل فليحان وغطاس خوري للمشاركة فيه باسمه. فأضحى الحراك السيادي مع مشاركة جنبلاط وانضمام الحريري يكبر كـ"كرة ثلج" عابرة للطوائف. 

توّهّم القاتل أنّ الإطاحة برفيق الحريري تُفرمل تلك الاندفاعة الأممية - بعدما اتُهم الحريري بأنّه يقف خلف القرار 1559 - وتروّض الأصوات المحلّية المطالبة بالسيادة. فعل فعلته في 14 شباط 2005 ولكن "انقلب السحر على القاتل". 

ستبقى "14 شباط" فصلاً نضالياً مشرقاً في تاريخ لبنان الحديث ومحطّة راسخة في الوجدان
دم الحريري ورفاقه تدفّق نهراً بشرياً في "14 آذار" وأطاح مشهدية "شكراً سوريا" الشعبية في "8 آذار". كما خلق زخماً دولياً ضغط لفرض تطبيق القرار 1559 بجزئه المتعلّق بجلاء الجيش السوري عن لبنان والذي تحقّق في 26 نيسان 2005. 

دم الحريري ورفاقه أنهى مفاعيل الوكالة الحصرية لنظام آل الأسد في لبنان التي منحتهم مطلع تسعينات القرن الماضي عقب مسارعة الأسد الأب إلى الانخراط بالتحالف العسكري الدولي لتحرير الكويت بحيث لعب دور "الشرطي" بما يتعلق بضبط الأرض في لبنان، في خضمّ مشروع السلام في الشرق الأوسط الذي كان يلوح في الأفق. 

دم الحريري ورفاقه كرّس مفهوم "لبنان أوّلاً" في عمق المكون السنّي، طاوياَ زمن تفوّق الولاء العربي على الانتماء الوطني. كما أسقط جدار الفصل بينه وبين المكوّن المسيحي الذي كان يعاني بسواده الأعظم من القمع والاضطهاد والإجحاف، وينظر إلى الحريري في تلك المرحلة كأحد أوجه أهل الحكم الذين كانوا أداة في خدمة مشروع النظام الأمني اللبناني–السوري. 

في العام 2024، ثمّة من يعتبر أنّ دم الحريري ذهب هدراً وأنّ السوري خرج من الباب ليعود من الشبّاك. حتّى أنّ بعضهم رأى أنّ الانسحاب كان صوريّاً لأنّ "ملائكة" السوري بقيت بعد العام 2005، ونجحت عبر الدور الذي لعبه "حزب الله" في إطاحة مفاعيل "ثورة الأرز". هذا البعض يعتبر أنّ مشاركة "الحزب" في الحكومات بعد هذا التاريخ عـبـر وزراء حـزبـيـيـن - بناء على فتوى دينية من الشيخ الراحل عفيف النابلسي - وفرض إيقاعه في اللعبة السياسية أو أقلّه منع السير بالبلاد على إيقاع الآخرين، هي امتداد لنهج محور الممانعة، وإن انتقل المشهد من عنجر إلى حارة حريك. 

في العام 2024، ثمّة من يرى أنّ "المحكمة الدولية الخاصة بلبنان" التي أُغلقت مع نهاية العام 2023 بعدما أُنشئت عقب صدور قرار مجلس الأمن الرقم 1757 العام 2007 - لمحاكمة المسؤولين عن هجوم 14 شباط وامتدّ اختصاصها ليشمل هجمات أخرى حُدّدت قضائياً على أنّها "مرتبطة" به - لم تفِ بالغرض. كما رأى البعض أنّ تمويل المحكمة شكّل هدراً من جيوب اللبنانيين لأنّ كلفتها قدّرت بنحو مليار ومئتي مليون دولار دفع لبنان منها 49%. كذلك، اعتبر هذا البعض أنّ "المحكمة تمخّضت فولدت فأراً"، إذ اقتصرت خلاصة عملها على إدانة ثلاثة كوادر من "حزب الله" كأفراد - وهم سليم جميل عياش وحسن حبيب مرعي وحسين حسن عنيسي – والحكم عليهم بالسجن المؤبّد دون النجاح بتوقيف أيّ متهم أو إدانة المحرّض لا المنفّذ فقط. 

كثيراً ما يميل الناس إلى الرهان على تحقيق أهدافهم كاملة جرّاء حدث واحد. وهذا ما راهنت عليه شريحة كبيرة من اللبنانيين مع الاغتيال المزلزل في 14 شباط 2005. لكن في تاريخ الشعوب، لا تكون المحطّات المفصلية كاغتيال الحريري على أهمّيتها محطّة نهائية. فالنضال في الأساس عمل تراكمي مستدام. 

لذا لم يذهب دم رفيق الحريري ورفاقه هدراً وهو لم يثمر فقط انسحاباً سورياً من لبنان بعد احتلال دام 30 عاماً على أهمّيته التاريخية، بل الأهم خلق روح "14 آذار" التوّاقة إلى قيام دولة قانون ومؤسسات، دولة حرة وسيدة ومستقلة. هذه الروح ما زالت حيّة بين ناسها رغم فرط عقد "14 آذار" تنظيمياً لألف سبب وسبب. كذلك، "المحكمة الدولية الخاصة بلبنان" وفت بالغرض عبر إدانتها عياش ورفاقه. فهي إدانة معنوية ومادية لـ"حزب الله" - الذي سارع أمينه العام السيد حسن نصرالله الى اعتبارهم "أشرف الناس" – وإن لم تكن إدانة رسمية لأنّ طبيعة هذه المحكمة اقتضت إدانة أشخاص لا كيانات تحاشياً لأيّ veto في مجلس الأمن يحول دون ولادتها. 

الأهم ستبقى "14 شباط" فصلاً نضالياً مشرقاً في تاريخ لبنان الحديث ومحطّة راسخة في الوجدان. كما أنّ الحكم بحقّ عياش ورفاقه سيبقى إدانة لـ"حزب الله" – وإن مع وقف التنفيذ بسبب استباحة القوانين وانتهاك العدالة - إلى أن يثبت العكس.