تفيد جميع الحسابات العقلانية بأنّه ليس من مصلحة الولايات المتحدة ولا خصومها التصعيد في المنطقة، لما سيكون لهذا الأمر من تداعيات قد تنعكس سلباً على أسعار النفط ونسب التضخّم العالمي. ومن الممكن أن يرتدّ ذلك سلباً على وضع الرئيس الأميركي جو بايدن الذي يعاني من وضع انتخابي صعب في مواجهة منافسه الرئيس السابق دونالد ترامب. 

لكنّ المشكلة تكمن في أنّ رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو لا يزال مندفعاً باتجاه التصعيد، وهو استطاع ابتزاز غطاء من الرئيس بايدن لهجوم يزمع القيام به باتجاه معبر رفح، ما يهدّد بمجزرة كبرى ستحصل بحقّ الفلسطينيين وبتوجيه ضربة للأمن القومي المصري، وهذا ما دفع ببعض أركان الجيش المصري إلى التلويح بالانسحاب من اتفاقية كامب ديفيد التي وقّعت في العام 1979. 

واشنطن والساحة العراقية 

في موازاة ذلك فإنّ الولايات المتحدة تجد نفسها متجهة لمزيد من التصعيد في اليمن وسوريا والعراق. وعلى الرّغم من أنّ بعض فصائل المقاومة العراقية كانت قد أعلنت عن وقفها للعمليات ضدّ القواعد الأميركية في العراق وسوريا عقب عملية ضد القوات الأميركية في الأردن، أودت بحياة 4 جنود وجرح نحو أربعين، فإنّ القوات الأميركية نفّذت عملية اغتيال لقيادي في الحشد الشعبي وسط العاصمة العراقية بغداد. فقد استهدفت مسيّرة أميركيةسيارة تقلّ قياديين اثنين في "الحشد الشعبي" في منطقة المشتل، شرق العاصمة بغداد وسط حي سكني من أحياء المدينة، ممّا هدّد حياة المدنيين العراقيين. وقد أعلنت كتائب "حزب الله" العراقي على لسان أمينها العام أبو تحسين المحداوي عن مقتل القيادي أبو باقر الساعدي إثر غارة أميركية على موكبه شمال العاصمة بغداد. من جهتها أعلنت القيادة المركزية الأميركية سنتكوم أنّ اغتيال القيادي العراقي جاء رداً على عمليات المقاومة العراقية ضدّ القواعد الأميركية. يشار إلى أنّ الرئيس الأميركي كان قد صرّح بأنّ الضربات التي استهدفت عدّة مواقع في سوريا والعراق، جاءت ردًا على استهداف جنود أميركيين في قاعدة عسكرية في الأردن. 

هذا كله أعاد تفعيل العمليات العسكرية التي تشنّها المقاومة العراقية ضدّ القواعد الأميركية في العراق وشرق سوريا، كما أثار حفيظة الحكومة العراقية والمسؤولين في الجيش العراقي الذين بدأوا برفع الصوت مطالبين بانسحاب القوات الأميركية من العراق. وقد أعلن المتحدث باسم القائد العام للقوات المسلّحة العراقية اللواء يحيى رسول أنّ القوات الأميركية باتت تشكّل تهديداً للأمن والاستقرار في العراق، داعياً إلى انسحابها كلّياً من البلاد. وشدّد على أنّ الولايات المتحدة تهدّد السلم الأهلي وتخرق السيادة العراقية، مشيراً إلى أنّها تستخفّ بحياة الناس وأبناء الشعب العراقي. وجاء في بيان للأمين العام لـ"عصائب أهل الحق" قيس الخزعلي أنّه يجب على الحكومة العراقية تقديم طلب رسمي إلى مجلس الأمن الدولي يطالب بانسحاب فوري للقوات الأجنبية من العراق. 

وقد اعتبر مراقبون مختصّون بالشأن العراقي أن هذا يشكّل مؤشّراً على أنّ واشنطن قد خسرت الكثير من نفوذها في المنطقة، وأنّ الأداء الأميركي كان فاشلاً، ما أدّى حتّى إلى تغيّر موقف الرأي العام الأميركي من الوجود الأميركي في الشرق الأوسط. وهم أكّدوا أنّ فصائل المقاومة العراقية طوّرت من أدائها وصعّدته، خصوصاً أنّها كانت تردّ في السابق ردّاً محدوداً على القوات الأميركية. أمّا الآن فلقد تغيّر الوضع إذ باتت هذه العمليات تتسبّب بخسائر أكبر في صفوف الجنود الأميركيين، علماً أنّه من وجهة نظر القانون الدولي ،فإنّ وجود الأميركيين في العراق قائم على أساس أنّهم مستشارون، وهذا لا يعطيهم الحقّ بالقيام بعمليات عسكرية أو استهداف قيادات عراقية، خصوصاً أنّ الحشد الشعبي هو مؤسسة رسمية تابعة للحكومة العراقية.  

رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو لا يزال مندفعاً باتجاه التصعيد، وهو استطاع ابتزاز غطاء من الرئيس بايدن لهجوم يزمع القيام به باتجاه معبر رفح


واشنطن والساحتان اليمنية واللبنانية 

أمّا في اليمن فإنّه على الرغم من تأكيد الإدارة الأميركية نيّتها عدم التصعيد، فإنّ غاراتها على هذا البلد قد تؤدّي إلى عكس ما تعلنه، على الرّغم من إعلان أطراف رئيسية في النزاع اليمني وأولها المملكة العربية السعودية عن دعمها مسار التسوية. والجدير ذكره أنّ المملكة قد أكّدت دعمها جهود الأمم المتحدة للتوصّل إلى خارطة طريق لدعم مسار السلام في اليمن وإنهاء الصراع الدائر في هذا البلد للعام التاسع على التوالي. 
وقال وزير الدفاع السعودي خالد بن سلمان إنّه سبق أن استعرض مع المبعوث الأميركي الخاص لليمن تيم ليندركينغ المستجدات باليمن ودعم المملكة جهود الأمم المتحدة لحلّ سلمي للأزمة.  

وكان المبعوث الخاص للأمين العام للأمم المتحدة إلى اليمن، هانس غروندبرغ، قد أعلن أنّه عقد محادثات مع مسؤولين ودبلوماسيين في الرياض بشأن خفض التصعيد على المستوى الإقليمي واستمرار ضبط النفس في اليمن، وسبل دعم التقدم نحو وقف لإطلاق النار، واتخاذ تدابير لتحسين الظروف المعيشية واستئناف عملية سياسية في اليمن. وسبق أن أعلن غروندبرغ في كانون الأول الماضي عن توصّل الأطراف اليمنية إلى الالتزام بتنفيذ تدابير تشمل تنفيذ وقف لإطلاق نار في جميع أنحاء اليمن، وإجراءات لتحسين الظروف المعيشية، والانخراط في استعدادات لاستئناف عملية سياسية جامعة تحت رعاية الأمم المتحدة. 

ويرى مختصّون بالشأن اليمني أنّ أنصار الله الحوثيين استطاعوا فرض أنفسهم في الميدان، وأنّه بات على الجميع أخذهم في الاعتبار، وأنّ الأميركيين لا يريدون التصعيد خصوصاً لما لذلك من آثار سلبية جداً على أسعار النفط والاقتصاد العالمي. ويرى هؤلاء المراقبون أنّ الرياض تشعر بعدم الارتياح إلى الغارات الأميركية البريطانية على اليمن إذ إنّ القادة السعوديين يفضّلون التهدئة ولا يريدون زيادة التوتر لأنّهم يريدون التركيز على وضعهم الداخلي وإعادة هيكلة الاقتصاد السعودي، علماً أنّ الولايات المتحدة غير قادرة على الدخول في معركة واسعة مع اليمن. لذلك تقوم بضربات متقطّعة في هذا الإطار.  

أخيراً، فإنّ الولايات المتحدة وحلفاءها الأوروبيين الذين يحرصون على عدم توسّع المواجهات بين لبنان وإسرائيل، قد لا يكون بمقدورهم أن يحتووا الأمر أكثر من ذلك. ففي ظلّ اندفاعة نتنياهو للتصعيد، وفي ظلّ ردود حزب الله النوعية على الاعتداءات الإسرائيلية، فإنّ الأمور قد تخرج عن سيطرة الجميع وتتجه إلى تصعيد على الرّغم من اتفاق حزب الله مع إيران ومع الأميركيين والأوروبيين على ضرورة احتواء التصعيد.  

الأثر السلبي على الاقتصاد العالمي  

ونتيجة التوتر في المنطقة، ارتفعت أسعار النفط مع ارتفاع العقود الآجلة للخام الأمريكي "غرب تكساس الوسيط" بنسبة 0.46% إلى 74.20 دولار للبرميل، في حين ارتفعت العقود الآجلة للخام العالمي مزيج "برنت" بنسبة 0.47% إلى 79.58 دولار للبرميل. في موازاة ذلك ارتفعت تكلفة الشحن البحري نتيجة التوتر في الشرق الأوسط بشكل عام والبحر الأحمر بشكل خاص، إذ أعلن الرئيس التنفيذي لشركة "ميرسك" للشحن فينسنت كليرك أنّ البحرية الأميركية أبلغت الشركة أنّها غير قادرة حالياً على ضمان سلامة ملاحة كلّ السفن في البحر الأحمر، وأنّ التوتر سيشهد مزيداً من التصعيد. لذلك قرّرت الشركة ومعها شركات الشحن الأخرى إعادة توجيه سفنها بعيداً عن البحر الأحمر، مما يجعلها تسلك الطريق الأطول والأكثر تكلفة حول القارة الأفريقية. ونتيجة ذلك تراجعت أرباح الشركة بنسبة 87 في المئة في الربع الأخير من العام 2023 في حين تراجعت قيمة أسهمها بنسبة 13 في المئة. كلّ هذا يفيد بأنّ أسعار النفط ستتأثّر أكثر بما يجري في البحر الأحمر، وهذا ما سيؤدّي إلى ارتفاع الأسعار وأيضاً ارتفاع أسعار النقل وتالياً أسعار السلع. ومن الممكن أن يتسبب بركود اقتصادي يؤثّر على حركة الإنتاج العالمي مما سيؤدّي إلى نتائج كارثية.