المتابعة اليومية للملفّات الحياتية تجعلنا نتساءل: كم ستطول "حالة الفطرة" التي نعيش في ظلّها، قبل العودة إلى كنف الدولة؟ ففي الفترة الأخيرة لا تكاد تخلو واقعة من تجاوز "العقد الاجتماعي"، الذي ارتضاه اللبنانيون خضوعاً للدولة مقابل حماية حقوقهم. وإذا وضعنا "سلبَ" الموازنة المقرّة حديثاً معظم المواطنين الحقَ بالحياة، فإنّ تجاوز السلطة التنفيذية للقوانين، وتصرّفها كمستبدّ جاهل برز في كيفية التعاطي مع ملفّ إيجارات الأماكن غير السكنية.

في 14 كانون الأول 2023، أقرّ مجلس النواب قانون الإيجارات للأماكن غير السكنية، وأحيل إلى الحكومة وكالة عن رئيس الجمهورية في 18 كانون الأول 2024. الحكومة تحفّظت عليه مع قانونين آخرين بعدما وقّعتهما مع باقي القوانين التي أقرّها مجلس الوزراء مجتمعاً وكالةً عن رئيس الجمهورية، ولم تنشره في الجريدة الرسمية. ومن ثم أعادت القانون إلى مجلس النواب بمرسوم حمل الرقم 12835 بتاريخ 12 كانون الثاني 2024. وقد تذرّعت الحكومة في مرسوم الإحالة بضرورة "تحصين القانون كي يؤدّي الهدف المبتغى والمنشود من إقراره (...) ضمن برنامج زمني، ووفقاً لآلية تحترم حقوق المالك والمستأجر، وتنصف الطرفين، وتحمي الاقتصاد الوطني في آن واحد".

مخالفة الدستور

بالإضافة إلى "التعدّي الصارخ على صلاحيات رئاسة الجمهورية المنوط بها رد القوانين، فعلها رئيس الحكومة منفرداً من خارج صلاحياته"، بحسب ما قال رئيس لجنة الإدارة والعدل النيابية النائب جورج عدوان. وقد صرّح من المجلس الاقتصادي والاجتماعي عقب لقاء حواري مع أصحاب قدامى المالكين والمستأجرين بأن "من الممكن أن لا يكون قد عاد إلى مجلس الوزراء أثناء ردّ القانون". وأضاف: "لكننا ‏تجاوزنا هذه القضايا من أجل إيجاد الحلّ عبر التحضير للإمساك بزمام الأمور جدّياً، ومن خلال الحوار".

أسباب ردّ القانون

لملمة الفضيحة سياسياً لا تعفي "الدولة" من إحداث خسائر جسيمة على جزء من مواطنيها الذين "يحملون أملاكهم على أكتافهم"، منذ ما يزيد على نصف قرن، بسبب العجز عن تحمّل مسؤولية قراراتها. وهي، أي "الدولة"، قد "تقمّصت" شخص المستأجرين للأماكن غير السكنية. وجمعت في مرسوم إعادة القانون كلّ الحجج التي تحول دون تطبيقه، ومنها:

- حصر فترة التمديد بمدّة أقصاها 4 سنوات مع زيادة بدل الإيجار بشكل تصاعدي بنسبة 25 في المئة سنوياً ليصل في السنتين الثالثة والرابعة إلى 8 في المئة من القيمة البيعية للمأجور.

- عدم أخذه بالمؤشّرات المعيشية والتضخّم.

- عدم مطابقته المواصفات العالمية لتحديد الزيادات وصحّة المهل المحددة في متنه.

- لا يعطي المستأجرين الوقت الكافي لترتيب أوضاعهم.

- لا يأخذ في الاعتبار حقّ المستأجر في الحفاظ على المأجور لحاجات نشاطه الاقتصادي.

- يؤدّي إلى إنهاء عقود أكثر من 300 مدرسة رسمية، الأمر الذي يرتّب تداعيات سلبية على عدد كبير من التلاميذ ويحرمهم من متابعة تحصيلهم العلمي.

الضرب بالقوانين والمصلحة الاقتصادية عرض الحائط

ما فعلته "الدولة" من الناحية الكلية، هو أخذ طرف مع فئة دون أخرى. والتصدّي لإرادة ممثلي الشعب المنتخبين ديمقراطياً. والحالتان تشكّلان مخالفة دستورية. أمّا في التفصيل فتورد رئيسة تجمّع مالكي الأبنية المؤجّرة في لبنان المحامية انديرا الزهيري مجموعة كبيرة من المخالفات القانونية والمغالطات المنطقية للنتائج الاقتصادية التي ستترتب على عدم تطبيق القانون.

من الناحية القانونية، تؤكّد الزهيري أنّ "آخر تمديد للإيجارات غير السكنية بحسب قانون 2014، الذي أتى لمرّة واحدة فقط، انتهى في 30 حزيران 2022. ممّا يعني أنّ تعليق العمل بالقانون الخاص الصادر حديثاً، يفرض العودة إلى تطبيق القاعدة العامّة، أي اللجوء إلى تطبيق قانون الموجبات والعقود منعاً للفراغ التشريعي. وسوف ينتج من ذلك، اعتبار جميع العقود الممدّدة في الأماكن غير السكنية شاغلة دون مسوّغ شرعي. وهذا يحتمّ الإخلاء الفوري للمأجور".

"الخلو" ليس في مكانه

من الناحية الاقتصادية، تشكّل الإيجارات غير السكنية القديمة 22 في المئة من مجمل عقود الإيجارات. إذ بلغ عدد القديمة منها، بحسب إحصاءات وزارة المال إلى مطلع 2019، 25.900 عقد. في حين بلغ عدد الإيجارات الجديدة 87098. وعليه فإنّ بدلات الخلو المدفوعة سابقاً تشكّل 1 في المئة من العدد الأساسي للمستأجرين. "إذ سدّد 3.42 في المئة فقط بدل خلوات"، بحسب ما أفاد النائب عدوان، وذلك من أصل 25900 عقد إيجار قديم، تشكّل 22 في المئة من مجمل الإيجارات غير السكنية. وبرأي الزهيري "ليس كلّ المستأجرين القدامى لغير السكني قد دفعوا "خلو". إذ دفعت معظم الخلوات من مستأجرين جدد ليحلّوا مكان المستأجرين القدامى، وليس للمالك. كما تعمّد كثير من المستأجرين تأجير المأجور من الباطن لطرف ثالث وقبض بدل إيجار حديث مقابل تسديد بدل إيجار زهيد إلى المالك.

وعن المطالبة بخلو "عادل"، فإنّ احتساب فرق بدل المثل للإيجارات على السعر الرائج طوال سنوات الشغول، وإضافة الفائدة المتراكمة على البدلات غير المقبوضة، والربح الضرائبي التي حسمها المستأجر من أرباحه المصرّح بها للدولة على ضرائبه، ومن ضمنها مبلغ بدعة الخلو والتحسينات، "تفوق قيمة أيّ خلو"، بحسب الزهيري. "هذا من دون احتساب الأرباح التي جناها المستأجر القديم في تجارته على السعر الرائج".

تطبيق القانون يحقّق العدالة

بالأرقام، تشكّل إيجارات الدولة 2.63 في المئة من الإيجارات القديمة. الأمر الذي يدحض مقولة إنّ الدولة هي المستأجر الأكبر، وإنّ التحرير سوف يضع الدولة أمام مأزق اقتصادي. والأكثرية من المستأجرين في الأماكن غير السكنية، أي 87.098 مستأجراً يشكّلون حوالى 77.08 في المئة تدفع السعر الرائج مقابل أقلّية تشكّل 22.92 في المئة من المستأجرين لا تدفع شيئاً تقريباً. وهو ما يشكّل مخالفة دستورية لعدم المساواة والمنافسة والإثراء غير المشروعين. وتالياً فإنّ الاستمرار في التعدّي على الملكية الفردية وحقّ المالك في التصرف بملكه فيه مخالفة لمفهوم النظام الاقتصادي الحر. وبحسب الزهيري "يمكن المالك أن لا يطلب أيّة زيادة على العقد القديم لمدّة عامين بشرط أن يخلي المستأجر المأجور من بعدها". وبرأيه فإنّ "استمرار الاشغال لا يؤذي الأفراد، إنّما يفوت الملايين على الخزينة بسبب القيمة الزهيدة للعقود القديمة التي تقتطع الضرائب والرسوم على أساسها". هذا عدا أنّ "هناك العديد من الأماكن المأجورة مقفلة. والمستأجرين يطالبون بـ "بدل الأجر"، وليس هناك من ضرر عليهم في حال الإخلاء أو تعطّل مصالحهم الاقتصادية.

مرّة جديدة، تفشل الدولة في معالجة ملف حياتي واجتماعي بهذه الأهمية. وأسباب الفشل لا تعود إلى الجهل بالقوانين، إنما إلى الهروب من تطبيقها لأسباب أبعد ما تكون عن تحقيق العدالة الاجتماعية والمساواة بين المواطنين وإحقاق الحق.