يولدون ببكائهم ويرحلون بدموعنا. كلّما تلقّيت خبر وفاة تراءت لي صورة الولادة وترقّب الأهل صوت بكاء الطفل ليفرحوا، وصورة العائلة عند رحيل أحدهم ولو باسماً للموت، ولكنّهم يبكون. يبكون، وفي كثرة دموعهم نهر يحمل فقيدهم إلى الضفّة الأخرى. بعضهم لا يبكي خوفاً على آخر صورة حفظها لمن رحل في عينيه.
الموت هو الموت، خطوة إلى حيث لا تصل أيدينا ولا يأتينا خبر، ولكنّها خطوة سنخطوها جميعاً، كلٌّ في أوانه. هو خسارة لا تعوّضها إلّا الحياة، ففينا ومعنا يبقى ذكرُ من رحلوا. يبقون في عيوننا، في لفتاتنا، في خبزنا اليومي، حتّى نلتقي.
الحزن على فقيد يكاد يكون هو نفسه عند جميع البشر. لا معنى لمكانة رفيعة أو متواضعة بالنسبة إلى الابن أو الأخ أو الزوجة أو الأخت أو الصديق. ليست قصة أعداد، وكل يوم يتساقط عشرات الضحايا، بل المئات، كما يحصل خلف حدودنا الجنوبية أو في أماكن أخرى من هذا العالم. بعضهم يُقتلون في حرب، وبعضهم يموتون في حادث، وبعضهم يصابون بمرض. يتساوون بالنسبة إلى من بقي خلفهم. أقاربهم يعرفونهم بالأسماء والوجوه والعادات والقصص، ليسوا أرقاماً، لكلّ منهم قصّته، ولكلّ غصّته.
يتساوون بالنسبة إلى من بقي خلفهم. أقاربهم يعرفونهم بالأسماء والوجوه والعادات والقصص، ليسوا أرقاماً، لكلّ منهم قصّته، ولكلّ غصّته.
بالأمس، في "الصفا نيوز" فقدنا رجلاً، عرفه بعضنا عن قرب، وشخصيًّا، في حين عرفه بعضنا الآخر من خلال عمله أو توجيهاته أو إنجازاته وما قرأ عنها.
بالأمس، خسرنا المهندس إسكندر صفا أحد مالكَي الموقع، شاهدنا المالك الآخر، الأخ الذي فقد أخاه وشريكه أكرم صفا وهو يودّعه في رحلته الأخيرة التي أخذته منه ومن العائلة ومنّا جميعاً.
في مراسم الوداع الأخير، وقف أكرم إسكندر صفا ليعلن من الموت حياة، ليؤكّد أنّ والده لم يترك إرثاً من خلال ما أنجزه فقط، بل ترك خطة للمستقبل تساعدنا على تحقيق رؤيته وأحلامه، واعداً بالعمل على تطبيقها مع شقيقه أليهاندرو وعمه أكرم بالشغف نفسه الذي طبع مسيرة والده.
خبر وفاة إسكندر صفا أعاد إلى الأذهان قصة هذا الوطن الصغير الذي نجح رجاله في بقاع الأرض، وتحوّلوا عمالقةً في مجالات مختلفة. هذا الوطن الذي أنتج أسماء تحدّت الصعاب ووصلت إلى أعلى القمم، يبدو، اليوم، بأمسّ الحاجة إلى أسماء جديدة تعيد إليه بعض بريقه، والرهان على الأجيال الطالعة. يحتاج إلى إيمان من بقي فيه ومن هجره بقدرته على الانبعاث من تحت الرماد.
إسكندر صفا اِسْم انضمّ إلى أسماء كبيرة أخرى رسّخت للبنان أسطوريّته.
مع كلّ رحيل، نستعيد ذكرى جميع الذين رحلوا، نستعيد ذكرى صديق أو قريب، نشعر بحزنهم ونتذكّر أحزاننا.
فيمَ كانوا يفكّرون في آخر لحظات حياتهم؟
ماذا كان في جعبتهم لليوم التالي أو للسنة المقبلة من مشاريع وأحلام وخطط؟
لمن قالوا وداعاً ومن فاته الوداع؟
كثيرة هي الأفكار والتساؤلات التي يحييها الموت فينا. إلّا أنّ أهمّها هو إصرارنا على إحياء الراحلين في قلوبنا طويلاً. نعمل سريعاً على لملمة ذكرياتنا معهم، نرسم في عيوننا وجوههم وأصواتهم وبعض ما كانوا يقولون في جلساتهم، نعيد إحياء كلّ ما جمعنا من ذكريات ونضعها في مكان قريب من أرواحنا.
لو أنّ للبشر أجنحةً لربما كنّا اعتدنا رحيلهم. ولكنّ البشر كالأشجار يُغرسون في كلّ أرض وتذهب جذورهم عميقاً، وبذورهم تنمو حيث تحملها الريح.