يتزايد الشعور بالقلق لدى الولايات المتحدة الأميركية نتيجة تآكل نفوذ حليفتها فرنسا في منطقة غرب إفريقيا، إثر سلسلة الانقلابات التي أطاحت أنظمة كانت تابعة لنفوذ باريس في عدد من بلدان الساحل الإفريقي، وبينها غينيا كوناكري ومالي والنيجر وبوركينا فاسو، وانفتاح هذه الدول على علاقات جيدة مع روسيا والصين اللتين تعتبران المنافستين الرئيستين للنفوذ الغربي والأميركي في إفريقيا التي تشكّل إحدى ساحات الصراع الرئيسة بين الدول الغربية من جهة والدول الاوراسية من جهة أخرى.

في هذا الإطار، جاءت جولة وزير الخارجية الأميركي أنتوني بلينكن على أربع دول إفريقية بين 22 و24 كانون الثاني 2024، وهي الرأس الأخضر وساحل العاج ونيجيريا وأنغولا، وجميعها تقع على السواحل الإفريقية الغربية المطلّة على المحيط الأطلسي. وقد أعلن بلينكن أنّ بلاده "ملتزمة تعميق العلاقات مع إفريقيا على الرّغم من الأزمات العالمية."

ونقل بلينكن عن الرئيس الأميركي جو بايدن دعمه كلّ ما من شأنه معالجة القضايا الرئيسة التي تواجه القارّة السمراء، وأكّد أنّ مستقبل الولايات المتحدة وازدهارها مترابطان مع مستقبل إفريقيا التي باتت تلعب دوراً أكبر على الساحة الدولية. وشدّد على أنّ الولايات المتحدة ملتزمة تعميق الشراكات وتعزيزها وتوسيعها في جميع أنحاء إفريقيا، واصفاً الرأس الأخضر، وهي أرخبيل ناطقة باللغة البرتغالية يبلغ عدد سكانها حوالى 500 ألف وترتبط بتعاون وثيق مع الولايات المتحدة في مجال "إنفاذ القانون والسيطرة البحرية"، بأنّها منارة للاستقرار في المنطقة.

وكان رئيس الوزراء في الرأس الأخضر أوليسيس كورييرا إي سيلفا قد انتقد موجة الانقلابات الأخيرة في إفريقيا، وقال إنّ الرأس الأخضر "تسترشد بقيم الديمقراطية الليبرالية". وقد حرص بلينكن على مرافقة سيلفا بجولة في ميناء العاصمة برايا، الذي وُسّع كجزء مما يقرب من 150 مليون دولار قُدّمت للرأس الأخضر من خلال مؤسسة تحدّي الألفية، التي تمنح المساعدات الأميركية للدول التي تفي بالمعايير الديمقراطية من وجهة النظر الأميركية.

بعد ذلك انتقل بلينكن إلى ساحل العاج التي تستضيف كأس الأمم الإفريقية، حيث حضر المباراة بين الدولة المضيفة وغينيا الاستوائية. وكانت المفارقة أنّ المباراة أقيمت في الاستاد الأولمبي الذي يتسع لستّين ألف متفرّج، والذي بُني بدعم مالي من الصين، علماً أنّ وزير خارجية الصين وانغ يي كان قد زار ساحل العاج قبل أسبوع من زيارة بلينكن.

وبالتوازي مع زيارة بلينكن على الدول المذكورة آنفاً، فإنّ سفيرة الولايات المتحدة لدى الأمم المتحدة ليندا توماس جرينفيلد كانت تجري جولة على ثلاث دول أخرى في غرب إفريقيا، وهي غينيا بيساو، وسيراليون، وليبيريا، حيث حضرت حفل تنصيب الرئيس الجديد للبلاد.

التدخّل الأميركي المباشر في منطقة غرب إفريقيا عائد إلى تآكل نفوذ حليفتها فرنسا في تلك المنطقة

ويبدو أنّ التدخّل الأميركي المباشر في منطقة غرب إفريقيا عائد إلى تآكل نفوذ حليفتها فرنسا في تلك المنطقة، علماً أنّ فرنسا كانت تحتفظ بهيمنة قوية في هذه المنطقة على الرّغم من استقلالها عن النفوذ الفرنسي في الستينيات من القرن الماضي. وفي العام 2004 تمّ الاتفاق بين الرئيس الأميركي جورج بوش والرئيس الفرنسي جاك شيراك على أن تلعب باريس دوراً رديفاً لواشنطن على الساحة العالمية، على أن تمنح دوراً في المشرق العربي وشمال إفريقيا وغربها. لكن أخيراً، وجدت واشنطن، إثر الانقلابات التي حصلت في عدد من البلدان الإفريقية على أنظمة إفريقية موالية لباريس، وتوجه قادة الانقلابات إلى روسيا والصين لتلقّي الدعم، أنّه لم يبقَ بالإمكان الاعتماد على باريس، وأنّه عليها التدخّل مباشرة في المنطقة لكبح النفوذ الروسي والصيني في المنطقة.

فإلى جانب روسيا، قامت الصين - التي تعتبرها الولايات المتحدة أكبر منافسة عالمية - بتوسيع نفوذها بسرعة في إفريقيا في السنوات الأخيرة. وفي حين قدّمت الصين قروضاً لمشاريع البنية التحتية لعدد كبير من الدول الإفريقية، فإنّ مجموعة فاغنر الروسية العسكرية الخاصة والمرتبطة بالكرملين نجحت بإقامة قواعد لها في ليبيا وأفريقيا الوسطى ومالي وبوركينا فاسو، وهذا ما اعتُبر توسيعاً للنفوذ الروسي في المنطقة، عدا زيارات كبار المسؤولين الروس خصوصاً للنيجر، وإعراب نيجريا أخيراً رغبتها في الانضمام إلى منظمة البريكس، علماً أنّ هذه الدولة هي الأكبر مساحة في منظّمة التعاون الاقتصادي لغرب إفريقيا، ويشكّل ناتجها المحلّي القائم أكثر من ستّين بالمئة من الناتج المحلّي لمجموع دول المنظّمة. والجدير ذكره أنّ وفداً روسياً رفيع المستوى قد زار النيجر وردّ وفد من النيجر الزيارة إلى موسكو بغية تعميق العلاقات معها.

وكانت النيجر هي المحور الأساسي في محاولة الولايات المتحدة إقامة قواعد عسكرية بذريعة مكافحة الإرهاب، حتى تشكّل موطىء قدم لنفوذها في منطقة الساحل. علماً أنّ الولايات المتحدة شادت قاعدة جوية بـ100 مليون دولار في مدينة أغاديز الصحراوية في النيجر، لتشكّل منطلقاً لعمليّات مسيّراتها وطائراتها في المنطقة. وكانت حكومة النيجر قد طردت القوات الفرنسية التي كانت عاملة في البلاد، وقطعت العلاقات مع باريس، إلّا أنّها سمحت للولايات المتّحدة بالاحتفاظ بحوالى ألف جندي أميركي في البلاد.

هذا دفع بالولايات المتحدة إلى السعي لإيجاد مقر جديد لقاعدتها الجوية، علماً أنّ الجنرال جيمس هيكر، قائد القوات الجوية الأميركية لكلّ من أوروبا وإفريقيا، أعلن في أواخر العام الماضي، أنّه يجري البحث عن بدائل في أماكن أخرى في غرب إفريقيا لإنشاء قاعدة جديدة للطائرات بدون طيار.

وكان الرئيس الأميركي جو بايدن استقبل قادة إفريقيا في عام 2022 لإظهار اهتمامه المتزايد بالقارة، علماً أنّ الدول الإفريقية باتت تتجه أكثر فأكثر إلى القطبين الأوراسيين روسيا والصين، لإقامة علاقات تحرّرها من الهيمنة الأوروبية والغربية وتمنحها فرصاً للحصول على قروض واستثمارات غير مشروطة سياسياً، ذلك أنّ المساعدات الغربية السخّية لأوكرانيا زادت من سخط الدول الإفريقية على الغرب.