ربع قرن ونيّف لنجيب ميقاتي في عالم السياسة وهو الآتي إليه من بوّابة عالم المال والأعمال. تنقّل بين الوزارة والنيابة وصولاً الى "البطاقة الذهبية" في عضوية "نادي رؤساء الحكومات" في لبنان. طوال هذه السنوات، أصرّ ميقاتي على الترويج لـ "وسطيّته" مستفيداً من دماثة لسانه وقدرته على مدّ الجسور مع الأفرقاء كافّة، والبحث عن "صفر مشاكل" معهم أو أقلّه ضبط المشاكل بأسلوب حضاري. عقلية رجل المال والأعمال جعلت منه يحترف حسابات الربح والخسارة ببرودة أعصاب يتغلّب بها على الاستفزازات، ويتحرّر من أيّ التزامات عقائدية ويتحاشى الاصطفافات السياسية ظاهرياً. 

لم ينجح ميقاتي بتكريس نفسه رقماً شعبياً صعباً وزعيماً سنّياً ووطنياً عابراً للطوائف وللمناطق انطلاقاً من طرابلس إلى بيروت وصيدا والى البقاع الغربي وعرسال. فـعزيمة "تيار العزم" لم تتخطَ طرابلس عمليّاً وحتّى لم تنجح أن تكون الرقم الأول في عاصمة الشمال. لكنّه لم يغرق في السباق النيابي الطرابلسي، ولم يقع في فخّ عقدة الأحجام الشعبية التي تصيب كثراً.  

إلّا أنّ ميقاتي صاحب العلاقات الدولية من واشنطن وباريس إلى دمشق، والمتربّع مراراً على لائحة أوّل عشرة أغنياء في العالم العربي وفق مجلة "فوربس" الأميركية، نجح بفرض نفسه لاعباً في الحياة السياسية اللبنانية - بغضّ النّظر عن امتلاكه كتلة نيابية أو عدمه – مقتنصاً فرص الأزمات لدخول نادي رؤساء الحكومات. 

ففي خضمّ الانقسام السياسي العمودي بيـن "8 آذار" و"14 آذار"، عقب "الزلزال السياسي" الناجم عن اغتيال الرئيس رفيق الحريري، والذي طوى 30 عاماً من الاحتلال العسكري السوري، نجح ميقاتي بدخول نادي رؤساء الحكومات للمرّة الأولى خلفاً لاِبْن مدينته الرئيس عمر كرامي الذي سقط تحت الضغط الشعبي لـ"ثورة الأرز" والسياسي للمجتمع الدولي. لم يأبه للثمن وهو عدم الترشّح لانتخابات عام 2005 النيابية التي أشرفت عليها حكومته مع إدراكه الكامل أنّ عمرها قصير جداً وهي استمرّت 3 أشهر فقط. ظهّر بهذه الخطوة الصورة الوسطية التي يعشق أن تلازمه.  

لم ينجح ميقاتي بتكريس نفسه رقماً شعبياً صعباً وزعيماً سنّياً ووطنياً عابراً للطوائف وللمناطق

ميقاتي الذي دخل مجدّداً الندوة البرلمانية عام 2009 بالتحالف مع "تيّار المستقبل"، ارتضى أن يغطّي سنّياً "إنقلاب الـOne way ticket" الذي أعلن العماد ميشال عون "البيان رقم 1" فيه ونفّذه مع قوى "8 آذار" ما أدّى إلى الإطاحة بالرئيس سعد الحريري وهو على درج البيت الأبيض، وإسقاط مفاعيل إتفاق الدوحة. فميقاتي واجه الحريري في الإستشارات النيابية عام 2011 حاصداً 68 صوتاً مقابل 60 صوتاً للحريري. 

ترؤسه للحكومة الثانية رغم شعور الطائفة السنية بالاستهداف عبر الأسلوب المُعتمد لإسقاط زعيمها الأول - الذي يترأس أكبر تياراتها السياسية ويمتلك أكثر من ثلثي نوابها - هشّم الصورة "الوسطية"، وجعل ميقاتي في نظر كثيرين في ضفّة "حزب الله" وحلفائه في "8 آذار". تحجّج بأّن أحد أركان "14 آذار" الزعيم الدرزي وليد جنبلاط شارك في حكومته، لكنّه تناسى أنّ ذلك تمّ على وقع "عراضة القمصان السود" التي شكّلت استحضاراً لـ"7 أيار" مع وقف التنفيذ. 

أمّا ترؤس ميقاتي الحكومة الثالثة عام 2021، فشكّل ضربة قاضية لصورة "الوسطية" المحبّبة إلى قلبه. فهو حصد في الاستشارات أكثرية 72 صوتاً أغلبيتهم للنواب المسلمين ولم يُسمّه أكبر تكتّلين نيابيين مسيحيين وهما "القوات اللبنانية" و"التيار الوطني الحر". كما كرّس ارتباطه السياسي العميق بـ"حزب الله" الذي عمد الى تسميته في الاستشارات، لإدراكه أنّ الحكومة الأخيرة في عهد العماد ميشال عون هي Super حكومة رغم تحولّها الحتمي لحكومة تصريف الأعمال بسبب توقّعه أن يطول الفراغ جراء خارطة توزيع القوى في مجلس نواب الـ 2022 المؤلّف من أكثرية أقلّيات ولا كفّة راجحة لأحد.  

على وقع "طوفان الاقصى" و"7 تشرين الأول" في غزّة وفتح "حزب الله" الجبهة الجنوبية في اليوم التالي، أي في 8 تشرين الأول 2023، جاءت مواقف ميقاتي للتأكيد أنّ الأخير في اللحظات المفصلية "غبّ الطلب" عند "الحزب". 

في 12 تشرين الثاني 2023، أعلن ميقاتي عبر فضائية "الجزيرة" أنّه "مطمئن لعقلانية حزب الله الذي يتصرف بوطنية عالية".  

في 8 كانون الثاني 2024، أعلن عبر قناة "الحرّة" أنّه شدّد أمام مسؤول السياسة الخارجية في الاتحاد الاوروبي جوزيب بوريل على "أنّ "حزب الله" لا هدف له إلّا المصلحة اللبنانية".  

في 11 كانون الثاني 2024، أكّد أمام المبعوث الاميركي آموس هوكشتين "أنّ الاولوية يجب أن تكون لوقف إطلاق النّار في غزّة، ووقف الاعتداءات الإسرائيلية على لبنان والخروقات المتكرّرة للسيادة اللبنانية". 

في 12 كانون الثاني 2024، توّج مواقفه مع بدء أول جلسة لمجلس الوزراء في العام الجديد بالقول: "أبلغنا جميع الموفدين أنّ الحديث عن تهدئة في لبنان فقط  أمر غير منطقي، وانطلاقاً من عروبتنا ومبادئنا، نطالب بأن يصار في أسرع وقت ممكن إلى وقف إطلاق النار في غزّة، بالتوازي مع  وقف إطلاق نار جدّي في لبنان. نحن لا نقبل بأن يكون أخوة لنا يتعرّضون للإبادة الجماعية والتدمير، ونحن نبحث فقط عن اتفاق خاص مع أحد". 

في الخلاصة، ميقاتي يتكامل مع الرئيس نبيه بري في تقديم الغطاء اللبناني الرسمي لتفرّد "حزب الله" بقرار إقحام لبنان في الحرب. كما يتبرّع بالترويج لنظرية "وحدة المسار والمصير" مع غزّة التي يحاول "الحزب" فرضها على اللبنانيين، غير آبه بعدم وجود إجماع وطني حولها وبتداعياتها الخطيرة على الوطن. كذلك، يورّط البلاد بمخاطر جمّة عبر اعتباره أن لا مصلحة لـ"الحزب" إلاّ مصلحة لبنان، وكأنّه يقول إنّ مصلحة لبنان بفتح الجبهة وبتبني ممارسات "الحزب".  

شتّان ما بين "حرب تموز" بالأمس و"حرب غزة" الآن. يومذاك كان للبنان حكومة سارعت بحكمة إلى الحدّ من تداعيات قرار لم تتّخذه فتبرّأت منه، وكذلك إلى القيام بحركة دبلوماسية مكّوكية بين عواصم القرار لوقف الحرب فساهمت بصدور القرار 1701. أمّا اليوم، مع الرئيس ميقاتي، فنحن أمام رجل يتبنّى قراراً لم يأخذه ويستجلب المخاطر على لبنان بتلميعه صورة "حزب الله" وترويجه لطروحاته. 

في 28 كانون الثاني 2011، نشرت إحدى كبريات الصحف العربية مقالاً حمل عنوان: "ميقاتي... وسطي أم رجل حزب الله؟". في 17 كانون الثاني 2024، أصبح الجواب جلياً، فعامل الوقت خير كفيل لكشف البواطن.