كشف آخر المؤشّرات المصرفية والنقدية حتّى تشرين الثاني 2023 خطورة المرحلة التي وصل إليها لبنان. فالأزمة التي تُركت لتعالج نفسها بنفسها، ذوّبت الودائع، وقضت على الوظائف في المصارف، وخلقت "ورماً" نقدياً قد لا ينفع معه في المستقبل العلاج بـ "كيماويات" تخفيض سعر الصرف. العقل البارد الذي أدير به الانهيار ما زال يعمل بفعالية قلّ نظيرها إلى اللحظة. فمن بعد المراوغة بتنفيذ الإصلاحات المسبقة التي اتُّفِق عليها مع صندوق النقد، وإخراج ناظر مؤتمر سيدر بيار دوكان "من ثيابه"، وإحباط همّة كل المعترضين في الداخل، رغم ضعفها... يصرف المسؤولون وقتهم، اليوم على التفكّر بكيفية إعادة ما تبقّى من ودائع على قاعدة "يا دار ما دخلك شرّ". 

التأمّل في الرسوم البيانية الصادرة أخيراً عن جمعية المصارف، التي تختصر التطورات النقدية والمصرفية منذ بداية تشرين الأول 2019 إلى مطلع كانون الأول 2023، يأخذ المُطالع إلى مكان سريالي. إذ يتعذّر التصديق أن تكون الودائع قد انخفضت في غضون أربع سنوات بمقدار 87,6 مليار دولار. وذلك في ظلّ منع شبه مطلق للسحب من الحسابات بالدولار والليرة منذ نهاية تشرين الأول 2019، وتقطير الحقوق بـ "هيركات" راوحت نسبته بين 65 و85 في المئة بموجب التعميمين الشهيرين 151 و158. 

وفي التفصيل، تبيّن الأرقام تراجع ودائع القطاع الخاص لدى المصارف بالعملات الأجنبية من نحو  124138 مليون دولار في أيلول 2019 إلى 91284 ملياراً إلى مطلع كانون الأول 2023. الجزء الأكبر من هذه الودائع جرى بيعه بشيكات مصرفية بقيمة غير حقيقية من أجل تسديد الديون ولا سيما العقارية منها، في حين تشير التقديرات إلى خروج ودائع بمليارات الدولارات بقيمتها الحقيقية من خلال إعادة الحسابات الائتمانية وتهريب الأّموال. 

أما الخسارة الحقيقية فقد شملت الودائع بالليرة. فهذه الودائع التي كانت تبلغ قيمتها عشيّة الأزمة حوالى 46.4 مليار دولار، لم تعد تتجاوز ، اليوم، على سعر الصرف الحقيقي البالغ 89500 ليرة، أكثر من 618 مليون دولار. أي أنّها خسرت خلال سنوات الانهيار كلّ قيمتها الفعلية، تقريباً. والخسارة أتت إثر تخفيض سعر الصّرف الذي قُيّم على أساسه من 1500 ليرة إلى 89500 ليرة. 

اللافت أنّه من أصل حوالى 92 مليار دولار، تشكّل مجمل الودائع بالليرة والعملات الأجنبية في القطاع المصرفي، هناك 83769 مليار دولار موجودة في مصرف لبنان. وهذا هو بيت الداء. 

كيفية إعادة الودائع 

بإزاء هذا الواقع يتركّز البحث بين المسؤولين السياسيين والمصرفيين والفعاليات الاقتصادية على أمرين أساسيين، هما:الأول، كيفية إعادة ما تبقّى من الودائع بأقلّ أضرار ممكنة، وتحديداً في ما خص التعميم 151، إذ إنّه لم يعد من المقبول تسديد المستحقّات بالدولار على سعر صرف 15 ألف ليرة، في حين أن سعر الصرف الحقيقي في السوق هو 89500 ليرة. 
والثاني، المحافظة على ثبات سعر الصرف الذي أرساه بشكل أساسي وقف طبع الليرات من أجل تمويل نفقات الدولة والسحوبات المصرفية بالليرة اللبنانية. 

أوساط مطّلعة نقلت أنّ البحث يتركّز حالياً على حلّ من اثنين: 
تسديد الودائع بالليرة على سعر صرف السوق بدلاً من 15000 ليرة، بشرط تخفيض سقف السحوبات من 1600 دولار شهرياً إلى نحو 300 دولار. وهو ما لا يؤثّر سلباً في الكتلة النقدية بالليرة الموضوعة في التداول. (تراجعت من 76 ألف مليار ليرة في آذار 2023 إلى 47460 مليار ليرة في نهاية تشرين الثاني 2023). 
إمكانية تسديد الودائع لكلّ من لا يستفيد من التعميم 158 (ينصّ على تقاضي مبلغ يراوح بين 300 و400 دولار نقداً بوتيرة شهرية) مناصفة بين الدولار النقدي والليرة على سعر صرف السوق، بشرط أن لا تُدفع الليرات نقداً بل توضع في البطاقات وتستخدم في المشتريات. 

وبحسب المعلومات، فإنّ الطرح الأخير لا يزال يواجه اعتراضاً مصرفياً. فالمصارف تتذرّع بعدم إمكانها تسديد الدولارات النقدية بسبب تراجع سيولتها في الداخل والخارج. وهي تعجز عن القيام بعملها الطبيعي الذي يدرّ العوائد ويتمثّل باستقطاب الودائع والتسليف، نظراً لعدم معرفة مصيرها قبل إقرار الخطّة الاقتصادية وتحديد كيفية توزيع الخسائر. إذاً، كما تظهر الأرقام المحدثة، تراجعت تسليفات المصارف للقطاع الخاص بالعملات الأجنبية من 38296 مليار دولار في أيلول 2019 إلى 7722 ملياراً مطلع كانون الأول. 

بلومبيرغ وسعر الصرف 

في مجال متّصل، دعا حاكم مصرف لبنان بالإنابة وسيم منصوري، في بيان، قبل أيام قليلة، جميع المصارف الراغبة وغير المشتركة لتاريخه في "Bloomberg FX Interbank Matching Syste"، إلى أن تتواصل مع الشركة من خلال ممثّليها الإقليميين، لـ"الاشتراك والبدء بالتحضير للمشاركة في التدريب الذي سيمكّن المصارف لاحقاً من العمل ضمن شروط التعاميم ذات الصلة". ويُفترض بالمبدأ من بعد بدء العمل بالمنصة، أن "يتوحّد سعر الصرف ويتحدّد بطريقة شفّافة بناء على العرض والطلب، ومن دون أيّ تدخّل في السوق"، بحسب كبير الاقتصاديين في بنك بيبلوس نسيب غبريل. "إذ يفترض الإفصاح بشكل دقيق عن الغاية من الدولارات التي يتمّ شراؤها، وتحديداً من قبل المستوردين. وستُقابل الإجراءات بوضع آلية تضمن استخدام هذه الدولارات في عمليّات الشراء الحقيقية، وليس إخراج الأموال عبر الفواتير الوهمية وتهريبها بغيرها من الطرق". وعليه، تفترض الآلية الجديدة التي سيجري اعتمادها انتقال الطلب بشكل شبه كامل من السوق الموازية إلى المنصّة، وتوقّف مصرف لبنان عن التدخّل بالسوق بوصفه لاعباً أساسياً أو صانع سياسات. وهذا ما قد يعود ليعرّض الليرة لضغوط ناتجة من العوامل الاقتصادية ووضع ميزاني التجاري والمدفوعات، وتدفّق الرساميل والاستثمارات، والاستقرارين السياسي والأمني، وحجم الثقة، "وهي كلّها عوامل تؤثّر في سعر الصرف"، من وجهة نظر غبريل. وقد كان يتم تلافيها خلال الفترة الماضية من طريق "تدخّل" مصرف لبنان، وعمله على سحب كتلة نقدية ضخمة من الليرات، بلغت 28 ألف مليار ليرة. الأمر الذي ساعد على تأمين الاستقرار". وبحسب المعلومات، فإنّ صندوق النقد الدولي في إطار ضغطه لاعتماد منصّة تداول مستقلّة وشفّافة، أخذ في الاعتبار إمكانية حدوث صدمة "تصحيحية" في بداية التعامل مع المنصّة، إلّا أنّه يعتقد أنّ السوق لا تلبث أن تتأقلم مع الواقع الجديد، كما حصل سابقاً. 

إنفاق القطاع العام ومصرف لبنان 


من التحدّيات التي ستواجه ترك سعر الصرف يتحدّد بناءً على العرض والطلب فقط، يبرز الانفاق الكبير المتوقّع للدولة بالليرة، وتحديداً على الرواتب والأجور. وذلك مقابل تحقيق عجز في الموازنة للعام 2024 نتيجة اقتطاع لجنة المال والموازنة العديد من الرسوم والضرائب. "وهو ما يتناقض مع واحد من أهمّ مطالب مصرف لبنان، التي تشترط إقرار موازنة من دون عجز. وذلك كيلا تضطر الحكومة بأيّ شكل من الأشكال إلى الطّلب من المركزي تغطية العجز، كما كان يحصل سابقاً. "ومن هنا يجب على مصرف لبنان أن يبقى على موقفه المتشدّد من تمويل الدولة"، يقول غبريل. وذلك على الرغم من أنّه لم يتوقّف عن تبديل إيرادات الدولة بالليرة إلى دولار من أجل تسديد الرواتب والأجور، وضمان عدم ضخّ كمّية كبيرة من الليرات تتجاوز 7000 مليار ليرة دفعة واحدة في السوق مع بداية كلّ شهر. وبالإضافة إلى ضرورة زيادة إيرادات الدولة وعدم زيادة الرواتب والأجور بطريقة عشوائية، يجب، من وجهة نظر غبريل، تخفيض النفقات وتحقيق الإصلاحات الهيكلية في القطاع العام، ولا سيما العمل على إلغاء او دمج 90 مؤسسة عامّة وهيئة مستقلة وصندوق انتفى سبب وجودها باعتراف لجنة الاقتصاد والتجارة منذ العام 2019. وهذا عدا الوظائف الوهمية وغير المنتجة. 

من الأمور المهمّة التي تستحق التوقّف عليها في بيان المؤشرات المصرفية والنقدية، تراجع عدد العاملين في المصارف من 24704 موظّفين في أيلول 2019 إلى 14693 موظفاً إلى نهاية 2023. ذلك بالتوازي مع إقفال 321 فرعاً في الفترة نفسها.