فيما تتواصل المعركة في غزّة بين الكيان الصهيوني من جهة وفصائل المقاومة الفلسطينية من جهة أخرى، تزدحم الفضائيات والإذاعات ووسائل الإعلام الأخرى  بآلاف التحليلات والتفسيرات لما جرى وحقيقة ما حصل في السابع من تشرين الأول، حين شنّت حركة المقاومة الإسلامية حماس ومعها باقي الفصائل الفلسطينية هجوماً على المستوطنات والقواعد الإسرائيلية في غلاف غزّة، في مشهد غير مسبوق في تاريخ الصراع العربي الإسرائيلي.  

وتشوب معظم القنوات العربية والأجنبية تحليلات ومعلومات قد تكون غير دقيقة، وذلك بتأثير من أهواء المحلّلين، وخصوصاً العرب منهم، أكانوا مؤيّدين أم معارضين لحركات المقاومة في غزّة، أو أكانوا مؤيّدين أم معارضين للسلام والتطبيع مع إسرائيل. لذلك تبرز أهمّية نقل ما يقوله المحلّلون والخبراء الغربيون خصوصاً ممّن سبق أن تولّوا مسؤوليات في الإدارات الغربية، وتحديداً الأميركية السابقة، بحكم أنّهم لا يزالون على تواصل مع دوائر القرار في بلادهم، وفي نفس الوقت فإنّهم ليسوا محكومين بقانون التزام الصمت، الذي يمنعهم من الإفصاح عن معلومات مهمّة قد تفيد بتوضيح صورة ما جرى ويجري في الأراضي الفلسطينية المحتلّة منذ السابع من تشرين الأول 2023.  

في هذا الإطار، كانت لافتة المقابلة التي أجراها الصحافي بول أريك بلانرو مع مسؤول كبير سابق في الحكومة الأميركية بشأن ما يجري في غزّة هو تشاس فريمان، الذي سبق أن تولّى منصب نائب وزير الدفاع السابق والسفير الأميركي لدى المملكة العربية السعودية. 

في هذه المقابلة كشف تشاس فريمان، بالاستناد إلى لتحقيقات التي جرت وتمّ الإفصاح عن مضمونها قبل أيام قليلة، أن معظم الإسرائيليين الذين قتلوا في السابع من تشرين الأول سقطوا على يد الجيش الإسرائيلي الذي أمر طائرات الهليكوبتر المجهزة بصواريخ هيلفاير والدبابات بإطلاق قذائف حارقة على المباني والمنازل التي تحصّن فيها مقاتلو حماس، ولو أدّى ذلك إلى مقتل إسرائيليين، وذلك تطبيقاً لمبدأ هنيبعل الذي تعتمده إسرائيل منذ ثمانينيات القرن الماضي، والذي ينصّ على قتل الرهائن الإسرائيليين حتّى لا يشكّلوا مادة للتفاوض مع المقاتلين الفلسطينيين. 

 إضافة إلى ذلك، كشف تشاس فريمان أنّ الجيش الإسرائيلي هو الذي قتل مئات من المشاركين في الحفل الموسيقي في غزّة، حين أصابه الارتباك واشتبك مع قوات الشرطة الإسرائيلية التي هرعت للمكان، وأدّى ذلك إلى وقوع المحتفلين بالحفل الموسيقي في خضمّ هذا الاشتباك، وهذ ما أدّى إلى مقتل المئات منهم. وقد علّق على ذلك بالقول إنّ هذا يشكّل عاراً من الناحية العسكرية، وهو نابع من الافتقار للتدريب والخبرة في التعامل مع حالات الطوارئ. مؤكّداً أنّ ما حصل نابع أيضاً من تطبيق الإسرائيليين مبدأ هنيبعل المذكور آنفاً، والذي "ينصّ صراحة على أنّه بدلاً من الشروع في مفاوضات بشأن تبادل الرهائن، "فإنّنا يجب ببساطة أن نقتل الرهائن الإسرائيليين وكذلك خاطفيهم." 

معظم الإسرائيليين الذين قتلوا في السابع من تشرين الأول سقطوا على يد الجيش الإسرائيلي

ويؤكّد نائب وزير الدفاع الأميركي السابق أنّ حركة حماس نجحت في تحقيق هدفين إستراتيجيين عبر عملية طوفان الأقصى. الإنجاز الأول تمثّل بإعادة مسألة حّق تقرير المصير للشعب الفلسطيني إلى أولويات جدول الأعمال العالمي". فخلال هذه العملية تمّ الإجهاز نهائياً على صفقة القرن، التي كانت تنصّ على حرمان الشعب الفلسطيني من أيّة حقوق وعاد حقّ تقرير المصير للفلسطينيين في شكل حل الدولتين، وهو المطروح على طاولة البحث بحكم "أنّه الحلّ الوحيد الذي يضمن أمن إسرائيل." ويؤكّد تشاس فريمان أنّه حتّى في "الولايات المتحدة، التي لديها عدد أكبر من السكان اليهود من إسرائيل، أدرك العديد من اليهود أنّ هذا هو الحل الوحيد المتاح، وأنّ مشروع إسرائيل الكبرى مستحيل التحقيق. كذلك فإنّ الشباب اليهود في الولايات المتّحدة يشعرون بالعار من أفعال الجيش الإسرائيلي التي تستهدف المدنيين والأطفال والنساء، ويخشون من ردّة فعل على شكل موجة من معاداة السامية تزداد حدّتها في الولايات المتحدة، كردّ فعل على جرائم الجيش الإسرائيلي. لذلك فإنّ غالبيتهم باتت تؤّيد حلّ الدولتين في فلسطين.  

أمّا الإنجاز الثاني الذي نجحت حماس بتحقيقه فتمثّل بتصاعد شعبيتها بشكل غير مسبوق في صفوف الشعب الفلسطيني، خصوصاً أنّهم برهنوا عن استعداد للتضحية والاستشهاد في سبيل قضيتهم، وهذا ما جعلهم يسحبون البساط من تحت أقدام حركة فتح التي تنبثق منها السلطة الفلسطينية برئاسة محمود عباس، وهو ما أدّى إلى تعرية هذه السلطة على نحو كامل، وإلى طرح مستقبلها وقابليتها للاستمرار على بساط البحث. ويستشهد تشاس فريمان بالمفكّر اليهودي المعادي المنتقد لإسرائيل بشكل كبير نورمان فينكلستاين الذي شبّه "عملية طوفان الأقصى بثورات العبيد في الولايات المتحدة" وعلى وجه الخصوص "ثورة نات تورنر عام 1831، وهو عبد أفريقي متعلّم وذكي جداً قاد ثورة العبيد في جنوب فيرجينيا." 

وقد طرح فنكلستاين البعد الأخلاقي للقضية حين تساءل هل كان العنف الذي مارسه مالك العبيد بحق عبيده هو نفسه العنف الذي يمارسه العبد لإنهاء عنف سيده، ويجيب أنّ عنف العبد ضدّ سيده هو أخلاقي لأنّه يردّ عنفاً غير أخلاقي من قبل السيد الأبيض. ويطرح تشاس فريمان نفس السؤال في حالة القمع الإسرائيلي للفلسطينيين والمقاومة التي يبديها الفلسطينيون في غزّة والضفّة الغربية ضد الاحتلال الإسرائيلي وضد عنف المستوطنين الصهاينة. 

ويخلص إلى أن الانتقام الإسرائيلي ضدّ الفلسطينيين "لن يترك أيّ ذكريات جميلة في المستقبل"، تماماً مثلما حدث مع أعمال العنف ضد الأميركيين من أصل أفريقي التي أعقبت ثورات العبيد في القرن التاسع عشر. ويذهب إلى حدّ القول إنّه "عندما يفكر الناس في إسرائيل في الماضي، كانوا يعتقدون أنّها ملجأ لضحايا المحرقة ... والآن سوف يفكّرون فيها على أنّها موطن مرتكبي جرائم الإبادة الجماعية، وسوف تبرز أمامهم صور حرق المباني وقتل الأطفال وهو ما سيشكل مشكلة كبيرة لإسرائيل التي ستفقد الرعاية والحماية من الغرب، وستفقد إمكانية اتّهام كلّ من يعارضها بمعاداة السامية".