ودّع مصرف لبنان العام الرّابع على الانهيار بإلحاق سعر صيرفة بالسّوق السوداء، خلافاً للغاية الأساسية من وجودها؛ وهي اللحاق بسعر السوق المصطنع وتخفيضه. فـ "الابنة" غير الشرعية لمصرف لبنان، التي أنكر مجلسه المركزي أبوّته لها بعد مغادرة حاكمه السابق رياض سلامة، "وُئدت" تحت تراب رفع الدّعم الكلّي. إذ أنّ الرّغبة بالحدّ من مسبّبات تشويه الاقتصاد، ومسح "عار" مراكمة أكثر من 2.5 مليار دولار من الخسائر المباشرة، أحصاها البنك الدولي، أوجب التخلّص من سعر صرف المنصّة الوهمي، والاعتراف بسعر السّوق.

لم يقتنع الحاكم السابق لمصرف لبنان رياض سلامة خلال أيام الأزمة الطوال، أنّ سعر الصّرف في السوق الموازي، حقيقي. ولطالما ردّد في مجالسه الخاصة ومقابلاته المتلفزة أنّ هذا السعر مصطنع، وهو وليد المنصّات "المتفلّتة"، التي تتلاعب بالاقتصاد ومصير العباد، بحسب أهواء مشغّليها. وللغاية أوجد منصّة "صيرفة" لتحديد السعر الحقيقي والتدخّل بالسوق عند الحاجة عبر الأدوات الكلاسيكية. وبغضّ النّظر أنّ منصة المركزي المعلومة النّسب فاقت مثيلاتها المجهولة، تشويهاً للاقتصاد، فقد اعتمدت من السّلطة السياسية كمرجع لتحديد الأسعار. وأخذت بسعرها الموازنات العامّة للحكومة واعتمدت لتسعير الرسوم الجمركية وفواتير الكهرباء والهاتف وغيرها من الضرائب. كما دفعت رواتب موظّفي القطاع العام على أساس السّعر الذي تحدّده، كمبادرة مؤقّتة لزيادة مداخيلهم بنسبة بدأت بحوالي 20 في المئة قبل ان تنخفض مؤخّراً إلى أقلّ من 5 في المئة.

 تحرير سعر الصّرف

للوهلة الأولى يُعتقد أنّ الموظّفين خسروا العلاوات (bonus) على رواتبهم، ومصرف لبنان تخلّص من تحمّل الفرق بين سعر السّوق وسعر المنصّة. إلّا أنّ التدقيق بالعمق يُظهر العكس. فالإضافة بنسبة 4.6 في المئة التي يتقاضاها الموظفون حاليّاً، على رواتبهم نتيجة تحويلها إلى الدولار على سعر 85500، تضيع في الصرافات الآلية شهراً بعد آخر نتيجة عدم تزويدها بالدولار من فئة 5 و10 دولارات. هذا عدا عن كونها لا تثمن او تغني عن جوع في الأساس، لكون المنصّة كانت سبباً في ارتفاع سعر الصرف، وبالتّالي القضاء على القيمة الحقيقية للرواتب والأجور. بمعنى آخر، أعطت المنصّة الموظّفين وعموم الشعب الفتات، وأخذت القيمة الحقيقة للرواتب والأجور. أمّا بالنّسبة إلى مصرف لبنان فهو لا يدفع الفرق من أمواله إنّما يشتري الدولار من السوق من إيرادات الدولة بالليرة. وعليه فإنّ الخسارة كانت من المال العام وليس من خزينة المركزي.

الذهاب أبعد من هذا التفصيل المضلّل، يقودنا إلى السؤال الأهمّ: هل إلغاء منصّة صيرفة يقود حقاً إلى تحرير سعر الصّرف؟ 

"ما لم يلغَ سعر الصرف الرسمي الذي خفّض مطلع هذا العام إلى 15 ألف ليرة، ويُترك تحديد سعر الصرف فعلاً لا قولاً لآليات العرض والطلب، فلا يمكن تسمية ما يجري تحريراً لسعر الصرف"، برأي رئيس "الجمعية الاقتصادية اللبنانية"، الدكتور منير راشد. "فالسعر المعمول به اليوم في سوق القطع ليس حرّاً بالمعنى الحقيقي للكلمة، بل مقيّد اصطناعيا من مصرف لبنان. ولو كان حراً لكنّا شهدنا تبدّله يوماً بعد آخر، أو حتّى ساعة بعد أخرى، ولو بمعدّلات طفيفة. خصوصاً في ظلّ كلّ التقلّبات الاقتصادية التي تحصل". والخشية أن يكون إلغاء سعر منصّة صيرفة مجرّد تدبير نظري لإرضاء صندوق النقد الدولي الذي يشترط إلغاء تعدّد أسعار الصّرف وتوحيدها في مدّة أقصاها العام الحالي. إلّا أنّه إن لم يلغ سعر 15 ألف ليرة وتعود الودائع لتسدّد بحسب السعر الحقيقي الرائج في السوق، فإنّ كلّ ما يجري لا يعدو كونه ذرّاً للرماد في العيون.

مع إلغاء صيرفة سترتفع كلّ أسعار السّلع والخدمات المقيّمة عليها بنسبة 5 في المئة

تحرير سعر الصرف وارتفاع الدولار

خلافاً للاعتقاد الشّائع بأنّ تحرير سعر صرف الودائع ودفعها بقيمتها الحقيقية بالليرة سيقود حتماً إلى عودة ارتفاع سعر صرف الدولار، يعتبر راشد إنّ "التعامل بالأموال الكترونيا وليس نقدياً يزيل هذا الخطر كلّياً. فبدلاً من دفع الوديعة أو جزءاً شهرياً منها بالبنكنوت، يجري وضعها في حساب البطاقات المصرفية وتستعمل في عمليات الشراء الالكتروني وفي هذه الحالة يخفّ الضغط على الكتلة النقدية بالليرة والمضاربة ويكون الجميع مستفيداً".

أهمية التعامل الكترونيا بالنقود لجهة تخفيف الضغط على الليرة وتسهيل مكافحة تبييض الأموال، ما زالت في لبنان تواجه ثلاث مشكلات رئيسية:

- الأولى، محاولة مصرف لبنان امتصاص أكبر قدر ممكن من الكتلة النقدية بالليرة التي تضخمت من حدود 5000 مليار ليرة قبل الازمة إلى أكثر من 90 ألف مليار في منتصف هذا العام، قبل أن تعود وتنخفض إلى حدود 58 ألف مليار ليرة مؤخراً. وللغاية يتّفق مصرف لبنان مع وزارة المالية على ضرورة تسديد التجار ضرائبهم ورسومهم نقداً وليس عبر حوالات أو شيكات بنكية. وهو ما شهدناه مؤخّرا مع مستوردي المحروقات وأدّى إلى امتناع المحطّات على قبول بطاقات الاعتماد، مثلها مثل الكثير من المؤسسات والمتاجر.

- الثاني، توسّع الدولة في الانفاق بالليرة، وترتيب التزامات كبيرة عليها في المستقبل القريب. فهي تتجه إلى إقرار زيادة مالية كبيرة تتراوح بين مليون و800 ألف ليرة ومليونين و400 ألف ليرة عن كلّ يوم عمل فعلي لموظّفي الادرة العامة. وتقدّر هذه الزيادة بـ 1.2 ترليون ليرة إذا اقتصرت على حدود 30 ألف موظّف ومتقاعد في الإدارة العامة. وقد تتجاوز هذا الرقم بأضعاف مضاعفة فيما لو طبّقتها البلديات وعادت وطالت بقية المؤسسات...

- الثالث، أنّ الانفاق من خلال بطاقات الاعتماد سيشكّل زيادة في الطلب على الاستهلاك بشكل كبير. الأمر الذي سيدفع التجار لعودة طلب الدولار من السوق لاستيراد ما ينقص من بضائع. وهو ما قد يؤدي إلى عودة ارتفاع سعر صرف الدولار نتيجة ارتفاع الطلب عليه مقارنة بالمعروض. أمّا وضع سقف منخفض للسحب فهو يحرم المودعين من تمويل فاتورتهم الاستهلاكية ويطيل احتجاز وديعتهم إلى مئات السنين خصوصا بالنّسبة للودائع التي تفوق المليون دولار.

من المعوقات الأساسية هي "عدم السماح للمصارف بالتداول بحرّية بسعر صرف السوق"، برأي راشد. فالقيود على المصارف كانت أصل البلاء. ويكفي السماح للمؤسسات وقطاعات الأعمال سحب ما يودع في حساباتها من أموال بالليرة، من أجل شراء الدولار من السوق بحلّ المعضلة. أمّا الحديث عن تضخّم الأسعار فهو "مجرّد تهويل" من وجهة نظر راشد. خصوصاً أنّ الأسعار سبق وارتفعت 4000 في المئة منذ بداية الانهيار من دون أن يتمكّن المودعون من سحب أموالهم بقيمتها الحقيقية. وهي لن تعود لتتضخم أكثر من ذلك بكثير في حال العكس. وكلّ الاجراءات التي تروّج لإبقاء السيولة بالليرة نقداً هي حجّة للسيطرة على السوق والمصارف".

تحرير سعر الصرف والأسعار

مع إلغاء صيرفة سترتفع كلّ أسعار السّلع والخدمات المقيّمة عليها بنسبة 5 في المئة ومن أبرزها: الدولار الجمركي. بطاقات التشريج للهواتف الخلوية. أمّا بالنسبة للكهرباء فيفترض بمصرف لبنان إلغاء التحوط (Hedging) التي يضيفها على الفواتير بنسبة ٢٠ في المئة وعليه يفترض بدولار الكهرباء أن يتراجع من حدود 103 آلاف ليرة إلى 89500 ليرة.

الأساس كان ولا يزال بتكامل الخطوات الإصلاحية ولاسيّما في كلّ ما يتعلق بالنّقد. ولكي نصل إلى هذه الخلاصة يجب تحرير سعر الصّرف كلّياً وإلغاء سعر 15 ألف ليرة، مع حفظ التدخّل بالسوق للمصرف المركزي. ذلك أنّ تثبيت سعر الصّرف هو سبب الاختلالات العميقة التي شهدها اقتصادنا وما زال يشهدها.