ارتأى أهل السلطة أنّه على المواطن أن يتحمّل عبء فشل سياساتهم وعقم إدارتهم للبلاد...

يخرج علينا أهل السلطة ولاسيّما أولئك ممن تربطهم علاقة وثيقة بالواقع المالي ليخبرونا بضرورة تعاون المواطن مع الدولة للخروج من الأزمة الحالية. ويذهب بعض أهل التحليل والتنظير إلى مدى أبعد عن الحديث عن مدى إفادة المواطن وما حققه من رخاء خلال السنوات الماضية مستفيداً من تثبيت سعر صرف الدولار ومن "بحبوحة" مزعومة قالوا أنّ الشعب اللبناني عاشها قبل "الانهيار الكبير".

هي "بحبوحة" أصابت المواطنين بـ"الغلط" فاستفادوا وأصابوا الثروات وحان وقت سداد الحساب. يظنّ السامع للوهلة الأولى أنّ ما قيل هو من باب المزاح الثقيل، ولكن كما نعلم جميعاً الأوضاع لا تسمح بهكذا ترف. ما يدفع إلى السؤال عن حقيقة وأبعاد هذا المنطق الذي تفتّقت عنه عبقرية سلطة أغرقت البلاد بالديون، نتيجة سوء إدارة وانعدام رؤيا وهدر إذا قرّرنا عن عمد تجاهل كلّ قضايا الفساد التي حفظها الناس ظهراً عن قلب قبل أن يحفظها التحقيق وتودع أدراج الرياح.

هي "بحبوحة" أصابت المواطنين بـ"الغلط" فاستفادوا وأصابوا الثروات وحان وقت سداد الحساب.

قرّرت السلطة المالية، ولا نقصد بها أشخاصاً بعينهم، بل هي عبارة عن نهج مستمرّ منذ انتهاء الحرب الأهلية العسكرية بموجب اتفاق الطائف. ونتحدّث هنا عن رؤيا اقتصادية ربطت مستقبل البلاد بمشروع السلام الذي كان يلوح في الأفق المرتبط باتفاق أوسلو بين إسرائيل من جهة ومنظمة التحرير الفلسطينية من جهة أخرى، فكان أن أدّى اغتيال رئيس الوزراء الإسرائيلي آنذاك إسحق رابين إلى شدّ الحبل الذي ربط مصير لبنان بهذا المشروع حتى قطع الأنفاس عنه.

وحين طار السلام حلّ الدمار والخراب، وبدل أن تنتهج بيروت مساراً مختلفاً استمرّ العمل على نفس المنوال ونفس الرهان. علينا الاستعداد لسلام موعود وتجاهل ما نعيشه من حروب أو تهديد بحروب. وتبرز في هذا المجال مقولة شهيرة لزعيم الحزب التقدمي الاشتراكي وليد جنبلاط ودعوته إلى أن نختار أيّ نموذج نريد للبنان: "هونغ كونغ أم هانوي". وهكذا كانت سياسة الرفاهية في أوقات الحرب، وكانت قرارات الاستدانة من الخارج من دون برامج وخطط تنمويّة حقيقية، وأصبحت مؤتمرات المانحين والدائنين هي النموذج الوحيد لإنعاش الوطن، من باريس واحد وما خلّفه من ديون بفوائد مرتفعة إلى مشروع تحويل الدين من العملة المحلّية إلى الدولار الأميركي، وبعدها كانت بدعة الاستكتاب والأسهم فتثبيت سعر صّرف الدولار مقابل الليرة، من دون إغفال الاحتفاء بعبقرية حاكم مصرف لبنان وتصويره سوبرمان المال العالمي، حتى تزيّن للبعض تسليمه رئاسة الجمهورية "انتخاباً" على ما جرت عليه العادة زمن الوصاية على لبنان. 

ارتأى أهل السلطة أنّه على المواطن أن يتحمّل عبء فشل سياساتهم وعقم إدارتهم للبلاد. على المواطن أن يدفع فاتورة إثراء هؤلاء. بعضهم استفاد من شراء سندات الخزينة وبعضهم استفاد من صناديق الدولة على اختلافها بتلزيم من هنا ومناقصة ناقصة من هناك، وبعضهم استحصل على ديون مدعومة واستغلّها لأغراض تجارية، وآخِر ابداعاتهم كانت لعبة صيرفة وما أدراك ما صيرفة، ولكنّها بدعة لا يمكن أن تضاهي معجزة تطيير أموال المودعين في المصارف أمام أعين من أمّنوا أنجح المؤسسات في لبنان وأكثرها ثراءً على جنى أعمارهم، وانتهى الأمر بتبادل اتهامات بين تلك المصارف ومصرف لبنان والسلطات السياسية المتعاقبة من دون تحديد المسؤول عمّا حصل.  

بالضرائب وبالمزيد من الضرائب فقط يمكن للبلاد الاستمرار، ولو كان هذا الاستمرار من دون تحصيل أيّ شيء يُذكر، على المواطنين تحمّل سنوات صعبة للوصول إلى برّ الأمان. قال أحدهم، ولكنّه تغاضى عن ذكر من سيكون بانتظار اللبنانيين عند برّ الأمان هذا إذا بلغوه، وهل سيرون حدود الضفة الأخرى أم يصطدموا بها، إذا بلغوها في ظل العتمة الشاملة التي تترصّدهم مع انعدام إيجاد حلّ لمشكلة الكهرباء رغم ما هو مطلوب منهم دفعه من زيادة رسوم وأكلاف.

وفوق كلّ هذا يطلّ ما يشبه الحرب عند الحدود، ولا قدرة على التصدّي لأيّ اعتداء تشنّه إسرائيل على لبنان، الذي لا يمكنه تحمّل كلفة إعادة إعمار أو تعويضات فكيف بالمجهود الحربي. واقع دفع بالأساطيل الغربية لزيارة بحرنا والمونة علينا لتمديد ولاية قائد الجيش، مونة لم تلق كبير اعتراض من أهل السيادة والقرار الحرّ الذين وضعوها في خانة حفظ الأمن والاستقرار، أو قطعاً للطريق على أي استثمار محتمل لنتائج الحرب الإسرائيلية على غزة. هي الحروب التي لا تنتهي إلّا حين تتحقق نتائج لطرف على حساب طرف ودوما تدفع الشعوب ثمنها. ونحن أيضاً ننتظر نتيجة الحرب عند حدودنا وكيف ستتم ترجمة ما ستؤول إليه على صعيد المكاسب طالما من المؤكّد أنّنا من سيدفع الثمن، فهناك من يهدّد بتدمير وهناك من يتخوّف من تهجير المزيد من الفلسطينيين إلى لبنان في ظلّ تراخي السلطة وخشيتها من معارضة المجتمع الدولي الذي يمنعها حتّى اللحظة من معالجة أزمة النازحين السوريين التي تهدّد الكيان اللبناني والهوية الوطنية بحسب المسؤولين أنفسهم. 

لبنان العاجز ماليّاً في ظلّ حكومة تصريف أعمال ومجلس نيابي مقيّد بعنوان انتخاب رئيس للجمهورية، حيث سدّة الرئاسة الأولى لا زالت تنتظر حلّا مستورداً من خماسية خارجية فيما لا يترقّب المواطن سوى صفعة خماسية جديدة قد ترتدي لبوس قصف مدفعي يطال قراه، أو موازنة مالية جديدة تجتاح جيوبه بضرائبها، أو مشكلة مع النازحين الذي باتوا يقاربون عديد نصف مواطنيه. كلّها سلوكيات وقرارات أو غياب قرارات تقف خلفها السلطات اللبنانية المختلفة ونتائجها تقع على رأس المواطن اللبناني نفسه. 

بين الحرب عند حدودنا الجنوبية وموجة البرد والصقيع الضرائبي، وبين فراغ يتمدّد من مجال إلى آخر أبعد من حدود السلطة إلى كلّ ما يتّصل بالحياة اليومية، يبدو من الواضح أنّنا لسنا بخير والوطن ليس بخير.