تناقلت وسائل الإعلام معلومات عن أنّ فئة الخمسمائة ألف ليرة وفئة المليون ليرة شقّت طريقها في آلية القرار الرسمي...

من المعروف أنّ حجم الكتلة النقدية بالتداول إنخفض بشكل ملحوظ نسبةً إلى ما كان عليه في شهر شباط وفي النصف الأول من آذار 2023، حيث قام المصرف المركزي بامتصاص أكثر من 22 تريليون ليرة لبنانية من هذه العملة خلال خمسة عشر يومًا من شهر آذار (النصف الثاني من الشهر) فقط، في أكبر عملية إمتصاص للّيرة اللبنانية في تاريخها. وأتت هذه العملية بعد ما وصل سعر صرف الدولار في السوق الموازية إلى 143 ألف ليرة لبنانية للدولار الواحد في منتصف شهر آذار. وفي شهر تمّوز سحب المصرف المركزي 14.7 تريليون ليرة لبنانية إضافية من السوق، لتُصبح بذلك الكتلة النقدية بالتداول 50.4 تريليون ليرة في أيلول الماضي بعد ما وصلت إلى 76 تريليون ليرة في شهر شباط.

ويُمكن تفسير هذا الامتصاص العنيف لليرة اللبنانية على أنّه رغبة واضحة في استقرار سعر صرف العملة ولكن أيضًا كرغبة لدى المصرف المركزي في الانسحاب من السوق نظرًا لاضمحلال قدراته الدولارية. فغياب الليرة اللبنانية، التي من المفروض أنّها تخدم الاقتصاد بشقّيه الاستهلاكي والاستثماري، أدّى إلى حلول الدولار مكانها. وسابقًا كان المركزي يتدخّل في السوق من خلال التعميم 161 والذي ألغي مع وصول الحاكم بالإنابة وسيم منصوري إلى سُدّة الحاكمية. هذا الإلغاء بالإضافة إلى رفض منصوري تمويل الدولة بالليرة والدولار، كما كان يفعل سلفه، يعني بكلّ بساطة الانسحاب "السلس" من السّوق بالتزامن مع القرار الحكومي بالدولرة.

وحديثًا، تناقلت وسائل الإعلام معلومات عن أنّ فئة الخمسمائة ألف ليرة وفئة المليون ليرة شقّت طريقها في آلية القرار الرسمي حيث تنتظر القرار النهائي للتصويت عليه مع الحصول على غطاء سياسي من قبل القوى السياسية. وهذا الأمر يحمل في طيّاته عددًا من النّقاط التي من الواجب على المواطن الاطّلاع عليها.

ما هو الهدف من طبع فئات جديدة من الليرة اللبنانية؟

إذا كان طبع فئة المئة ألف ليرة والتي أعلن عنها المركزي حديثًا أتت لتحلّ مكان العملة الموجودة، وبالتّالي هو أمر تقني بحت لا تداعيات مبدأية له، إلّا أنّ طباعة فئات جديدة تطرح السؤال الجوهري عن سبب الطبع والهدف المنشود؟ وبالتالي نعتقد أنّ الهدف قد يكمن في واحد من أربعة:

أولًا – يأتي إصدار هذه الفئات بهدف طبع العملة وذلك لتغطية العجز في موازنة العام 2023 وموازنة العام 2024 (ما مجموعه 80 تريليون ليرة لبنانية إضافة إلى كلفة زيادة الأجور المُحتملة لموظّفي الإدارة العامّة)، بعد أن يكون تمّ إقرار قانون تمويل الدّولة من المصرف المركزي في المجلس النيابي وهو شرط منصوري لقبول تمويل الحكومة.

ثانيًا – يأتي إصدار هذه الفئات كمؤشّر للاستعداد لمرحلة من التصعيد الأمني مع العدو الإسرائيلي من ناحية طبع العملة لشراء الدولارات في السوق وتحصين احتياجات الحكومة المستقبلية من الدولارات عبر شرائها في السوق كما حصل في الشهر الماضي وهو ما رفع الاحتياطي من العملات الصعبة بقيمة 500 مليون دولار أميركي.

ثالثًا – يأتي إصدار هذه الفئات لتحلّ محلّ العملة الموجودة في السوق. إلّا أنّه ونظرًا إلى أنّ الليرة لم تعد تخدم الاقتصاد اللبناني، من المُستبعد أن يكون هذا هو الهدف نظرًا إلى عدم فعّالية هذا الإجراء.

رابعًا – احتمال أن يكون طبع العملة عملية استباقية لتحرير الليرة على منصّة بلومبرغ والتي قد تمرّ بسيناريو (مُحتمل وليس أكيد) رفع قيمة الليرة مقابل الدولار بحكم أنّ الليرة أصبحت نادرة، وطرحها على سعرٍ أقلّ من سعر السّوق الحالي (90 ألف ليرة لبنانية للدولار الواحد) قبل أن يعود المركزي ويبيع الليرة على المنصّة بهدف تجميع الدولارات ليعود بعدها سعر الصّرف إلى سعره الحالي أو أعلى من الحالي نتيجة العرض والطلب.

على كلّ الأحوال وبغضّ النّظر عن هدف طبع الفئات الجديدة من الليرة اللبنانية، من الأكيد أنّ هذا الإجراء يُرسل إشارة سلبية للأسواق بأنّ العملة ستكون عرضة لانخفاض في قيمتها في السوق.

ويبقى القول أن حاكم المصرف المركزي بالإنابة وسيم منصوري، نجح بشكل كبير في الانسحاب من السّوق والحفاظ على قيمة الليرة اللبنانية ولو أنّ استخدام هذه الأخيرة أصبح شبه معدوم في السوق باستثناء فواتير الدّولة التي ستبقى الأداة الأساسية لامتصاص الليرة والمحافظة على قيمتها، خصوصًا إذا ما طُرحت للتداول على منصّة بلومبرغ. كما نجح منصوري في تسليط الضوء بشكل لا لُبس فيه على التقصير الكبير للسلطتين التشريعية والتنفيذية في إقرار القوانين الضرورية للخروج من الأزمة الحالية وعلى رأسها الإصلاحات في مالية الدولة، والتي تفرض إصلاحات في القطاع العام تعجز حتّى السّاعة السلطة السياسية عن القيام بها لاعتبارات عديدة تخرج عن الإطار الاقتصادي - الاجتماعي البحت.

في الختام لا يُمكننا إلّا الجزم بأنّ عودة الليرة اللبنانية لتخدم الاقتصاد اللبناني كما كانت تفعل في السابق، مرهون بشكل شبه حصري بإقرار الإصلاحات الاقتصادية والمالية والنقدية والمصرفية والقضائية (واستطراداً السياسية) التي أصبحت ضرورة لعودة لبنان على الخارطة المالية العالمية. يُذكر أنّه وبعد التوقّف العشوائي عن دفع سندات اليوروبوندز في 7 آذار من العام 2020، خرج لبنان من النظام المالي العالمي وأصبح التمويل الخارجي معدوم باستثناء ما يُرسله المُغتربون اللبنانيون إلى ذويهم في لبنان والقطاع السياحي الذي لا يزال يُدخل دولارات إلى الاقتصاد تسمح له بالاستمرار والصمود.