قانون إعادة الهيكلة هو بمثابة "الغربال" للمصارف، وقد حرص معدّوه أن تكون "فتحاته" كبيرة...

يقطّر المسؤولون الإجراءات الإصلاحية، فيما سيل الانهيار يجرف ما تبقّى من أمل بالتعافي إلى بحر الخراب. فبعد نحو أربع سنوات على اندلاع الأزمة الاقتصادية، ومرور أكثر من سنة ونصف السنة على تعهّد لبنان أمام صندوق النّقد بتنفيذ الإجراءات المسبقة... أطلّ قانون إعادة هيكلة المصارف برأسه. وعلى غرار ما سبقه من قوانين، سُرّبت مسودّة النّسخة المعدّة من قبل لجنة الرقابة ومصرف لبنان إلى العلن، قبل أن تحطّ في الأمانة العامّة لمجلس الوزراء!

قانون إعادة الهيكلة هو بمثابة "الغربال" للمصارف، وقد حرص معدّوه أن تكون "فتحاته" كبيرة. فأمّنوا لـ "الهيئة المختصّة" المعنّية بتقييم البنوك استقلالية كبيرة. وأعطوها الدّور المفصليّ بتحديد المصارف التي يمكن إصلاحها وتلك التي يتوجّب تصفيتها. وذلك بناءً على معايير نسبة الملاءة، والسيولة، والقدرة على الرسملة، وإمكانية ردّ الودائع، والعودة إلى ممارسة العمل المصرفي بشكل طبيعي. مع العلم أنّ القرار الأوّلي بإمكانية المصرف متابعة عمله، لا تحميه مستقبلاً من وضعه قيد التصفية في حال تبيّن عجزه عن الإيفاء بالإصلاحات المطلوبة. كما تملك الهيئة صلاحيات استثنائية بعزل المديرين وأعضاء مجلس الإدارة وتعيين مدير مؤقّت. وبحسب القانون تتشكّل الهيئة من حاكم مصرف لبنان رئيساً، وعضوية كلّ من نائب الحاكم وقاضٍ، وأحد اعضاء لجنة الرقابة على المصارف ومؤسّسة ضمان الودائع.

قانون الانتظام المالي.. أوّلاً

تقمّص دور "محامي الشيطان" يفرض على جزء من المتابعين دحض "قانون إعادة الهيكلة"، قبل إقرار "قانون إعادة الانتظام المالي"، الموجود حالياً في المجلس النيابي. بـ "العربي"، يعني: من غير المنطقي تحديد وضعية المصارف، ومن منها قابل للحياة، قبل معرفة مصير ودائعها "المعدومة" في مصرف لبنان المقدّرة بـ 72 مليار دولار. فإذا أقرّ شطب هذه الديون كما حدّدت الحكومة في خطّتها بموافقة صندوق النقد، فإنّ الإفلاس سيكون من نصيب أغلبية المصارف. أمّا إذا حُمّلت مسؤولية هذه الديون للدولة كما يطالب البعض الآخر، وقطعت الوعود بإعادتها، فإنّ أغلبية البنوك ستحيا، ولو نظرياً كـ "زومبي" بنك إلى أمد غير معروف.

تطبيق القوانين النافذة... يكفي

في ظلّ احتدام هذا الصّراع النّقدي العامودي، يبرز رأي قانوني صرف يقول إنّ لبنان ليس بحاجة إلى قانون جديد لإعادة هيكلة المصارف، بل إلى تطبيق القوانين الموجودة. "فممّا يَظهر من القوانين التي يجري إعدادها للقطاع المصرفي تحديداً، أنّ القطاع غير منظّم، لا يخضع للقوانين، ولا يوجد سلسلة طويلة من التشريعات التي نظّمت عمله طوال ستون عاما"، تقول الأستاذة الجامعية والباحثة الأكاديمية في القوانين المصرفية والمالية، الدكتورة سابين الكيك. فيما الحقيقة أنّ القطاع المصرفي مرّ بثلاث مراحل تشريعية بالغة الاهمية، لا يمكن إهمالها أو تجاوزها، وهي:

- المرحلة الأولى، قانون النّقد والتسليف والسرّية المصرفيّة مع بداية انطلاق العمل المصرفي في العام 1963.

- المرحلة الثانية، إصدار القانون 2/67 على أثر انهيار بنك انترا في العام 1967. ومن بعده إخراج المصارف من قانون الإفلاس القاسي الذي لا يأخذ بعين الاعتبار مصلحة المودعين، إنّما يراعي مصالح المصرفيين. ووضع القانون الذي يراعي مصالح المودعين واستمرارية المؤسسات المصرفية لكي تبقى ضمانة للمودعين.

- المرحلة الثالثة، قانون إصلاح الوضع المصرفي في التسعينيات على أثر تعثّر عدد كبير من المصارف بعد الحرب. والذي استتبع بقانون الدمج في العام 1992.

وعليه يمتلك لبنان كلّ القوانين اللازمة لإعادة هيكلة المصارف. سواء كان من خلال تقرير مصرف لبنان التصفية الذاتية، أو التوقّف عن الدّفع تبعاً للقانون 2/67، وبالتّالي البحث عن حلّ لإنقاذ المصرف. وإمكانية تطبيق وضع اليد على المصرف من قبل المركزي، وصولاً حتّى الدمج. وبالتالي "ما الذي يمكن أن يضيفه أيّ قانون جديد لتنظيم العمل المصرفي، وحماية المودعين أكثر من القوانين الموجودة؟"، تسأل الكيك، "إلّا إذا كان الهدف هو تفصيل قانون على قياس المستفيدين من الأزمة. خصوصاً أنّ القاعدة القانونية بطبيعتها هي قاعدة استباقية، وليس لاحقة لظرف آني ولمراعاة مصلحة مؤقّتة وتطبّق بصورة استثنائية. وتفقد في الحالة الأخيرة عناصر القاعدة المجرّدة العامّة. هذا مع الأخذ بعين الاعتبار قفز القانون الجديد فوق إعادة هيكلة مصرف لبنان. فالأخير بصفته الهيئة النّاظمة للقطاع المصرفي ككل يجب أن تبدأ عملية إعادة الهيكلة به. خصوصاً في ظلّ ما يعانيه من نقص في الرقابة والتشريع والحوكمة ومن فجوة ماليّة هي الأكبر".

السيناريو المتوقّع حدوثه

ككلّ القوانين "الإصلاحية" التي سبقته، سيعمّق قانون إعادة هيكلة المصارف الخلاف على المسؤوليات، وستشنّ عليه الهجمات وسيلاقي واحداً من مصيرين: إمّا التمييع وصولاً حدّ التجميد، وإمّا إقراره مفرّغاً من مضمونه، كما حصل مع قانون السرّيّة المصرفية. وفي الحالتين سيدفع المودعون الثّمن الأكبر. حتّى أنّ القانون بشكله الحالي يتضمّن فجوات من غير المعروف لغاية الآن كيفية ملئها"، تقول المحامية الناشطة في رابطة المودعين دينا أبو الزور، "ومن ضمنها صندوق استرداد الودائع، وسقف الحماية للمودعين المحدّد بـ 100 ألف دولار". وبرأي أبو الزور "من المهم (من الناحية النظرية) طرح قانون إعادة الهيكلة من أجل بدء السير بمسار خطّة التعافي. إنّما (من الناحية الفعلية) فإنّ القانون وحده غير كاف. إذ يجب أن يقرّ بالتزامن مع بقية القوانين الإصلاحية للقطاع المالي وهي: الانتظام المالي، الكابيتال كونترول، توحيد سعر الصرف، رفع السرّيّة المصرفية". وبحسب أبو الزور "كان يمكن للجنة الرقابة على المصارف ومصرف لبنان اللذان أعدّا القانون أن يسيرا منذ اليوم الأول على الأزمة، بالقانون 2/67 وبالقانون الذي يجيز لمصرف لبنان وضع اليد على المصارف المتعثّرة".

يقال في الأدبيات الشعبية: "أنّ يأتي متأخّراً خير من ألّا يأتي أبداً"، وهذا قد يكون صحيحاً في الكثير من المواضع، إنّما الأكيد ليس القوانين ولاسيما منها المالية. "فأيّ عملية لإعادة هيكلة المصارف تفرض بالقوة على المودعين لا تلاقي النتيجة المرجوّة"، تقول سابين الكيك. "بدليل أنّ المشرّع اللبناني منذ العام 1967 أدخل المودعين كطرف أساسي في اللجان التي تحكم عمل المصارف المتوقّفة عن الدّفع. إذ قد يرى المودعون أنّ مصلحتهم تعويم المصرف عبر BAILIN مثلاً". ولا يمكن بأيّ شكل من الأشكال الفرض على المودعين حلّاً مفصّلا على قياس السلطات التي كانت السبب الأساسي بالمشكلة.