إنّ إغلاق فنادق وإقفال مطاعم لا يعني نهاية وجود لبنان، إنّما مقدّمة لمرحلة جديدة صعبة، افتكر اللبنانيون أنّهم بدأوا بالخروج منها تدريجياً... 

لم تكد فرحة اللبنانيين بعودة افتتاح واحد من أعرق الفنادق نهاية العام الماضي تكتمل، حتّى عادت موجة الإغلاقات لتضرب القطاع السياحي من جديد على وقع قرع طبول الحرب. محيّرٌ هو الواقع اللبناني! هل البلد مصاب بـ "لعنة" التاريخ والجغرافيا؟ أم أنّه "مبارك" بـ نعمة الصمود والتجدّد باستمرار مهما قست الظروف؟

بعيداً عن النّواحي الفلسفية للأسئلة الإشكالية، فإنّ لبنان من الجانب الاقتصادي الموضوعي يحمل بتركيبته شيئاً من الاثنين. فهو يقع وسط بيئة ملتهبة تعمّها كلّ أشكال الصّراعات الإثنية والسياسية والدينية، ويمتاز من الجهة الثانية ببيئة مميّزة وموارد بشرية وطبيعية غنيّة بتنوّعها ومرونتها. ومن هذه الزاوية فإنّ إغلاق فنادق وإقفال مطاعم لا يعني نهاية وجود لبنان، إنّما مقدّمة لمرحلة جديدة صعبة، افتكر اللبنانيون أنّهم بدأوا بالخروج منها تدريجياً بعد انفجار المرفأ وأزمة كورونا، المترافقين مع أسوأ انهيار اقتصادي.

الانتعاش لم يدم طويلاً

حتّى نهاية تموز المنصرم كان عدد السيّاح القادمين إلى لبنان قد فاق المليون سائح، وبلغ بحسب أرقام وزارة السياحة 1018892 شخصاً. وقد مثّل هذا الرقم ارتفاعاً بأعداد السياح بنسبة 26 في المئة عن الفترة نفسها من العام 2022. وكان واضحاً في الأشهر السبعة الأولى من العام الحالي أنّ تدفق السيّاح كان الأكبر منذ العام 2019. صحيح أن هذه الأرقام لم تنعكس زيادة في إشغال الفنادق التي بقيت أقلّ بنسبة 4.2 في المئة عن العام 2022، وبلغت 45.2 في المئة بحسب تقديرات "إرنست آند يونغ"، إلّا أنّ الموسم السياحي كان مثمراً. وقد توزّع السياح بشكل كثيف على بيوت الضيافة والشقق المفروشة والشاليهات. كما ارتفعت نسبة الحجوزات بشكل لافت على مواقع التطبيقات الإلكترونية. وهذا ما يفسّر الفورة التي شهدتها القطاعات آنفة الذكر خلال هذا الصيف. أمّا في ما خصّ الفنادق فقد عوّض ارتفاع سعر الغرفة الفندقية التراجع في الإشغال. حيث استفادت الفنادق في العام الحالي من ارتفاع متوسّط سعر الغرفة بنسبة 98.1 في المئة، من 33 دولارا في العام 2022 إلى 60 دولار هذا العام. وقد انعكست كلّ هذه العوامل إيجاباً على حركة المطاعم وتأجير السيارات وصولاً حتّى المساعدة في استقرار سعر الصرف، الذي استفاد من التدفقات النقديّة بالعملة الأجنبية.

"التطورات الإيجابية التي عايشها القطاع السياحي، والتي كان من المنتظر ألّا تنقطع مع نهاية موسم الصّيف في أيلول، وتستمرّ حتّى مطلع العام 2024، شهدت سقوطاً حرّاً من بعد 7 تشرين الأول. حيث ألغيت حجوزات المجموعات السياحية لأشهر تشرين الأول والثاني، القادمة من دول البلقان والبلطيق وغيرها من الدول الاوروبية"، بحسب نقيب وكالات السياحة والسفر جان عبود. و"تراجع حجم الأعمال في المطاعم بين 80 و90 في المئة"، بحسب أرقام غرفة التجارة والصناعة في بيروت وجبل لبنان، و"انخفض الإشغال الفندقي من حدود 45 في المئة إلى ما بين 5 و10 في المئة. وشهدت مرحلة ما بعد طوفان الأقصى ودخول لبنان الحرب ضمن ما يعرف بـ "قواعد الاشتباك"، انخفاضاً في الطلب على تأجير السيارات بنسبة 90 في المئة، وإلغاء المؤتمرات".

القطاع الفندقي يدفع الثّمن الأكبر

أمام هذا المشهد السوداوي الذي يخيّم على مختلف القطاعات الخدماتية، يظهر أنّ الفنادق، التي لطالما كانت "درّة تاج" السياحة، تدفع الثّمن الأكبر. إذ خلافاً للشاليهات وبيوت الضيافة المؤلّفة من أقلّ من عشرة غرف، والتي تفتح موسمياً، تعتبر الفنادق مؤسّسات ضخمة وذات كلفة تشغيلية مرتفعة جداً، وهي تتطلّب معدّلات إشغال مرتفعة طيلة أيّام العام للمحافظة على صمودها. وقد بدأت نكسة الفنادق الحقيقية في مرحلة مع بعد الحرب الأهلية، وهي اليوم مضطرّة لـ "توليد كهربائها ذاتيا بمتوسّط 22 ساعة يوميا، وشراء المياه من الصهاريج نتيجة انقطاع مياه الدولة بشكل شبه دائم"، يقول رئيس اتحاد النقابات السياحية ورئيس "المجلس الوطني للسياحة" بيار الأشقر. "فأصبحت الكلفة مرتفعة، لدرجة أجبرت أغلبية الفنادق المتوسّطة والصغيرة المتواجدة في جبل لبنان وبعض مناطق الأطراف على الاقفال". وبشكل عام يقدّر الأشقر نسبة الفنادق المقفلة على صعيد لبنان ككلّ بحوالي 35 إلى 40 في المئة.

الفنادق التي ظلّت صامدة بـ "شقّ الانفاس"، أملاً بتحسّن الأوضاع وعودة الاستقرار، أرهقت. وقد أتت التطوّرات الحربية في فلسطين المحتلّة وجنوب لبنان لترخي بثقلها على القطاع المنهك أصلاً. و"كلّما طالت الحرب وتوسّعت كلّما أصبح الخطر بأن نشهد موجة جديدة من الإقفال أكبر"، بحسب الأشقر.

المطاعم تفرغ من روّادها

على صعيد المطاعم المشهد لا يبدو أكثر إشراقاً، على الرّغم من تأكيد نائب رئيس نقابة أصحاب المطاعم والمقاهي والملاهي والباتيسيري في لبنان، خالد نزهة "إنّنا محكومون بالأمل". فنسبة ارتياد المطاعم في أيّام الأسبوع انخفضت 90 في المئة، وتحوّلت أكثرية المؤسسات في الأطراف إلى موسمية. وهذا يعود إلى "فقدان السياح والمغتربين، وانهيار القدرة الشرائية للمقيمين وتركيز اهتماماتهم على تأمين ضروريات الحياة"، بحسب نزهة. "وهو ما سيصعّب في المرحلة المقبلة إذا ما طالت الحرب وتوسّعت، على أصحاب المؤسسات إعادة البناء من جديد بعدما "عضّوا على جرح" تبخّر ودائعهم في القطاع المصرفي، وأعادوا توظيف كلّ إمكاناتهم المادّية وطاقاتهم المعنوية في استثمارات جديدة، خلقت آلاف فرص العمل أمام الشباب اللبناني". وبالفعل شهد هذا الصيف افتتاح نحو 400 مؤسسة في مجال المطاعم، وتمّ خلق ما بين 30 إلى 35 ألف فرصة عمل جديدة. وبرأي نزهة فإنّ "هذا القطاع الذي كان يضمّ 8500 مؤسسة دائمة، ونحو 4500 مؤسسة موسمية، ويشغّل 160 ألف عامل لبناني مسجّلين في الضمان الاجتماعي، وحوالي 45 ألف عامل موسمي من طلّاب الجامعات والمعاهد، يعتبر عامود الارتكاز بالنّسبة للاقتصاد اللبناني. ولا تقتصر أهمّية القطاع على فتح فرص عمل وتسديد الضرائب والرسوم، إنّما لخلقه دورة إنتاج كاملة باعتباره الأكثر استهلاكاً لمنتجات الصناعة الوطنية، بدءاً من عرق الخضار مروراً بالزيوت والمشروبات ووصولاً حتى الأثاث والتجهيزات والمعدّات".

مرّة جديدة يوضع الاقتصاد اللبناني بكافة قطاعاته على محكّ تجربة حرب جديدة قد تكون الأقسى والأعنف في ما لو حصلت. والخوف بحسب أرباب القطاعات لا ينحصر بكلفة التهديم، إنّما بصعوبة البناء مرّة جديدة.